أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 

 بعيد عن القلب قريب من الحافة: 

عدنان الصائغ يتأبط منفاه

 

 عدنان أبو زيد - امستردام

 

سيبدو الامر تقليديا جدا اذا ما دعوت القاريء لان يمعن في عنوان الذاكرة العجائبية للصائغ في (تأبط منفى). فأنسنة المنفى، ووخز رتابة العناوين المتداولة، يبعث على الفطنة مثلما يبعث على الامل، في قدرة الشعر العراقي على تهشيم الإستاتيكية في الشعر العربي بميكانزما السهل الممتنع واللغة الجزلة، بعد أن غاب من رموزه الكثير، وطفح من الغث على السطح مايستقطب القلق. وعدنان الصائغ الذي قضى عقدا من زمنه في المنفى يدقُّ الصنجَ العالي، يبدو اليوم منهمكا أكثر في سرد سيرة العراقي المنفي عبر كشف تفاصيل مفخخة بالدهشة لسيرته الذاتية، ولعله في هذا الديوان أنبل حزنا وأعمق فلسفة واكثر وعيا منه في الدائرة الفيزيقية لابداعه الشعري.
المجموعة تقع في 100 صفحة من القطع الصغير، وتضم باقة ازهار شعرية وفق نسق اجاد الشاعر ترتيبه وليس مصادفةٌ مَحْـضٌ.

 

 

شظف الشعر
يقول الصائغ: ما أكتبه أنا هو النتاج الحار لهذا المصهر الذي كونته أو كونني بالشظف والكد والقراءة والمغامرة والحفر والألم والتجريب.
وبالرغم من ان الشاعر يبدو في ديوانه (الميتاواقعي) فاقدا للامل اما خطوات الزمن التي القت بكاهلها على روحه، لكنه مالبث يبعث في نفس القاريء الاحساس بالدفء، حتى لتبدو انكساراته القوية شامخة في قصائده التي بدت في قالبها مؤثثة بالموسيقى، وهو قالب يرتبط بســلسلةَ علائقَ مع شعر البياتي والسياب ونزار قباني ومحمد الماغوط، و لم تكن اللغة فيه أداة معرفية بل أداة إيصال فقط، وماكانت مقنّنة الصرامة لغوياً أيضا.

 

 

طلاسم الشعر
ويقول الدكتور محمد أسدي وهو استاذ لغة عربية بأيندوفن الهولندية، ان قصائد الصائغ سهلة الارتطامٍ مع الوعي، ولاتتعب القاريء، ولعله في قصائده الايقاعية اشعر منه في قصيدة النثر التي تحولت الى خواطر وكلمات متقاطعة وطلاسم لدى اكثر من شاعر. عدنان الصائغ يختزل الفكرة باقل مايمكن من الكلمات وهذا ديدن الشاعر المبدع.
ويضيف : لاارى قصيدة واحدة يمكنك تاويلها كيفما تشاء، لان الشاعر يمنحك الفكرة على جناح الحرف، فلكانك تتخيل عصافير من الحكمة تنقر في ذاكرتك. انه شاعر يمتلك سطوة على القاريء.
اما أمين حسني (شاعر وعضو في جمعية فنلو الثقافية)، فيقترح على الشاعر ان يفلسف النص اكثر في قصائده لانه يتقن ذلك مانحا القاريء وعيا اكثر، ويضيف: الصائغ في قصائد مثل (العراق، علو، عقدة، عابر) أعاد للقافية وظيفتها التي يظن شعراء اقل كفاءة انها ثقيلة في الشعر لكن الشاعر جعلها انسيابية ولااعتقد ان الشاعر يعاني من عبئها لانه متمرس في ادواته. الشاعر يكتب نصا براقا.
تابط منفى عبارة عن صفحات تخيلية، سطورها ممزوجة بالفلسفة، واطارها انسانى واجتماعى، ولم ينح شاعرها مسالك النص الغامض، بل انتهج سردا قصصيا واكبته موسيقي وكولاج.

 

 

هل الشعر حرفة لغوية
كثيرون هم الشعراء الذين يكتبون بالصدفة، فتتضخم قصائدهم بالكلمات المجترة لايصال فكرة بسيطة، وهي ذات الفكرة التي يوصلها الصائغ ببضع كلمات. لكنها كلمات من شعر، كلمات واعية ودافقة، كلمات لاتوازي نفسها ولاتتقاطع مع المعنى الاخر.
أن شعراء كثيرين ماانفكوا يتقنون السفسطة في الشعر محاولين برهان حرفة لغوية لاشعرية، باقحامهم المفردة المعجمية غير القابلة للتفكيك في نص يعجز القاريء عن استيعابه، ويعلنون هم انعزالهم لفشلهم في الوصول بيسر الى اللذة الفكرية. وهؤلاء الشعراء القاموسيون يمكن تصنيفهم حسب درجة الانفصام بينهم وبين القاريء.

 

 

نثر وشعر
أن الايقاع اللغوي المنتظم، يحفز نصا نثريا ما على ارتداء قميص الشعر، فما احوج النثر اليوم لان يزيح عن كاهله فوضوية التمرد على قوانين الشعر. أن تجارب لمحمد الماغوط وسعدي يوسف، تصب في هذا السياق وهؤء مبدعون كتبوا نثرا، يتدفق شعرا، وهجنوا الكلمات بالافكار، فجاءت قصيدتهم منسابة كشلال ماء، ونثرهم اضحى بحرا من افكار متلاطمة، وتابط منفى يسلك ذات المسلك، فلم يلق الكلمات جزافا، ولم يتداول الالغاز الشعرية، بل ركن الى الايجاز والتركيز في المعنى والكلمة الحكيمة.

 

 روح الشعر وسحر المرض
يلقي تابط منفى حجرا في رتابة غربة أصبحت وطنا لشاعر، لاسيما وان هذا الذي تابط منفاه كان قد هدد في وطنه في نيسان 2005 خلال مهرجان المربد الرابع، واعلن الحراس الجدد انهم ساخطون على شعره، ليتابط الشاعر حزنه ويقفل راجعا الى مدينة الضباب حيث المنفى.
لنقل ان الشاعر أو تابط منفى مسكون بغربة مبتسرة، تحولت عند حافات الوعي الى عقدة نفسية، تنبش في قيعان الذاكرة، لكن الشعر يفككها الان، من عقدة مستحكمة الى جزيئات متناثرة فاذا حضرت روح الشعر، مات سحر المرض، ليصبح الشعر تماما كالموسيقى يشفي الامراض، ويفك العقد. ولعلك تلمس ذلك في روح الشاعر حين يكتب، باحثا عن الانسجام مع ذاته لطرد داء الروح الذي كبر في الغربة :

العراقُ الذي يبتعدْ
كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
قلتُ: آهْ
والعراقُ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌّ
تخيّلتُ فوّهةً تترصدني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
ونصفٌ طغاهْ

 

 

نشيد اوروك
ومحنة الشاعر هي محنة العراقي في الزمن الصعب فقد كتب (نشيد أوروك) جندياً في إسطبل مهجور للحيوانات عام 1984، في قرية باقصى الشمال، وضلت ذاكرته حبلى بافكار القصيدة والامها حتى اتمها بعد عقد من الزمن ببيروت.
وبين قصيدة تبدو كملحمة غنائية مثل نشيد اوروك، وقصائد قصيرة ضمها الديوان الجديد تقترب كثيرا من الهايكو، يبدو الصائغ منقادا الى سحر الشعر، الذي لاتنفع معه تعاويذ
ويقتفي الصائغ في تابط منفى أثر مجموعاته السابقة التي نحت منحى سياسيا تاطر برقة الرومانسية مثل "انتظريني تحت نصب الحرية" و"العصافير لا تحب الرصاص" و"سماء في خوذة" و"تحت سماء غريبة" و"خرجت من الحرب سهوا" و"صراخ بحجم وطن"، لكن خطواته ركنت الى معالجات شعرية تؤطرها فلسفة وسؤال.

 

 الحلاج .. السؤال الازلي
ان من القصائد التي سيقف القاريء عندها مندهشا ومتفكرا هي قصيدة(الحلاج) وهي ثيمة تعكس الحيرة والسؤال الازلي امام الإدراك على نحو متَّصل ومتكامل بكل مايحدث امام الكون المتناسق امام العين في اعلى التل، والعبثي في العقل الواعي. وبين سطور القصيدة محاولة لاقتناص لحظة احتفاء بالحياة غائبة، وهي محاولة لاعادة ترتيب منظومة معطلة بفعل سلوك الطغيان.

أصعدني الحلاجُ إلى أعلى تلٍّ
في بغداد
وأراني كلَّ مآذنها
ومعابدها
وكنائسها ذات الأجراسْ
وأشار إلي:
- أحصِ
كم دعوات حرّى تتصاعد يومياً من أنفاسِ الناسْ
لكن، لا أحدٌ
حاولَ أن يصعدَ
في معناهُ إلى رؤياهُ
كي يوقظَهُ
ويريهِ..
ما عاثَ طغاةُ الأرضِ
وما اشتطَّ الفقهاءُ
وما فعلَ الحراسْو أخيراً، لا متأخراً فان التمعن في الجذور السرية لتأبط منفى، هو تشيث بجذور ولادة الكائن المبدع، واذا كنا نبحث عن أقاليم متخيلة في تضاد مع المألوف، فقد وجدناها في هذه المجموعة المحاصرة بابعاد المكان، لكنها مفتوحة بالزمان.

ــــــــــــــــــــــــ

(*) نُشرت في موقع "ايلاف" (ثقافات - عالم الأدب)  15 مارس 2007

 
البحث Google Custom Search