أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
مشاكسات الصائغ

د. عباس خضير كاظم*

بين عراق الأمس وعراق اليوم جدلية مريضة إذا فسح لتفاعلاتها الوقت فسوف تتمخض عمّا لا تحمد عقباه. عراق اليوم هو امتداد للمنظومة الفكرية التي أنتجها البعث، تلك المنظومة التي يتمحور حكامها ومن يحكمون، وكتّابها والقراء، وأساتذتها والطلاب حول مفهوم القهر السلطوي وفرض الرأي على الرأي الآخر، ناهيك عن التدليس والادعاء وبخس الناس أشياءهم.  لقد أدت هذه المنظومة إلى أمرين كلاهما داء عضال: الأول هو تمادي من يملك السلطة – وأعني بها سلطة الدولة بالأمس وسلطة البندقية اليوم – في ممارسة القهر دون وازع ذاتي أو خارجي، والأمر الثاني، والأخطر، هو قبول الأغلبية بواقع الحال هذا ودعمه بسكوتهم عن الحق ، فهم كما قال المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرح بميت إيلامُ

إن التغيير الذي شهده العراق بعد سقوط حكومة البعث – ولا أقول نظام البعث لأن هذا  الأخير لم يسقط بعد للأسف الشديد – هو تغيير لم يمس المنظومة الثقافية القديمة، بل ألبسها ثيابا أخرى لكي تليق بالعهد الجديد وتتأقلم لمتطلباته دون أن تفقد جوهرها السلطوي الذي تأسست عليه منذ البدء. بعبارة أخرى، لقد مس التغيير قشور هذه المنظومة وجانبها الرمزي وربما معجمها اللفظي، أما الجانب الفعلي فثابت يضرب الأرض بجذور يتعسر على المصلح أن ينال منها.  لم يكن العراق الذي حكمه البعث بحاجة إلى تبديل حكومة بأخرى، فالشيطان الذي تعرفه ليس بأسوأ من الشيطان الذي لا تعرفه ، وإنما كان العراق و لا يزال بحاجة ملحّة إلى تغيير شامل للنظام السياسي مع تغيير جاد للمنظومة الثقافية برمتها.  كان أعوان البعث يقتلون خصومهم زعما بأنهم خونة وجواسيس، أما اليوم فمسلحو العهد الجديد يقتلون خصومهم بتهمة الكفر والفساد في الأرض، وهذا ما كاد يحدث للشاعر عدنان الصائغ أثناء مشاركته في مهرجان المربد الشعري في مدينة البصرة، تلك المدينة التي كانت رمزا للطيبة في العراق قبل أن تتحول إلى مدينة تنافس بلاد الأفغان في تزمتها وفقدانها للتسامح وحرية الرأي.

لقد بلغ العداء لهذا الشاعر المسالم حدودا لا يمكن السكوت بازائها ، فالصائغ شاعر ارتقى به نجاحه إلى فضاء من الضوء إذ قعد بخصومه فشلهم في كهوف العتمة، فكان من الطبيعي أن يظهر الصائغ بخيره وشره أمام كل العيون، وهل الصائغ إلا ذلك الإنسان بخيره وشره؟
التقيت بعدنان الصائغ قبل أكثر من عشرين عاما في مدينتنا الكوفة ولم يكن بعد من أصحاب دواوين الشعر ولا الشهرة فكان جميل الروح جمّ الأدب والكياسة، وتكررت لقاءاتنا في مراحل سيرته الأدبية حتى خروجي من العراق في أعقاب انتفاضة عام 1991 فلم يكن آخر مرة رأيته فيها إلا كما كان أول مرة.

يأخذ خصوم الصائغ عليه قبوله بمنصب رئيس منتدى الأدباء الشباب، بعد إقصاء رئيسه السابق، ولا أكتم سرا حين أقول إنني وبعض أصدقائه شعرنا بضيق من قراره ذاك، ولكنني حين قرأت مقالته في العدد التالي للمجلة التي كان المنتدى يصدرها أيقنت بان لا خوف على الصائغ إلا من غضب السلطة.  ما زلت أتذكر بعض كلماته في تلك المقالة عن عدد جديد من المجلة دون ألوان أو ورق ثمين أو مكافآت، ولكنه عدد فيه شعر وإبداع حقيقيان. أتذكر لقائي معه بعد أيام من نشر تلك المقالة وبوحي له بخوفي عليه من جرأة كتاباته، فأجاب: "الله كريم".  كان الصائغ، وكما أكد مرارا، لا يدّخر جهدا لخدمة الثقافة والشعر.  أتذكر اتصالي به أيام كان رئيسا لمنتدى الأدباء الشباب وطلبي أن يرخص المنتدى تأسيس فرع له في النجف ففعل ذلك رغم أن قانون المنتدى – كما قال لي والعهدة عليه - لم يشر إلى إنشاء فروع في المحافظات، وحضر بنفسه افتتاح المنتدى في النجف.  ثم طلبت منه بعد ذلك أن يجيز فرعا آخر في البصرة، بناء على طلب أصدقائي من شعراء البصرة الشباب الذين زاروا فرع المنتدى في النجف، فوعدني خيرا وبنفس الحماسة، ولكن حال دون ذلك احتلال الكويت بعد فترة على ما أتذكر.  لا أدري كيف يشعر أصدقاؤنا أدباء البصرة بعد أن هدد أدعياء الدين بقطع لسان الصائغ في مدينتهم.

ليس الهدف من هذه المقالة التبشير بعصمة عدنان الصائغ، فهو كما أسلفت بشر، بخيره وشرّه، بل الهدف هو استنكار عهر نزعة قطع الأيدي والألسن، تلك السنة السيئة التي سنها الأمويون وسار عليها أشباه الساسة وأشباه المثقفين وأشباه المتفقهين.


* أكاديمي عراقي مقيم بالولايات المتحدة.

 
البحث Google Custom Search