أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عشر سنوات على رحيل محسن اطيمش

عبد الستار ناصر

كان صديقي أكثر من نفسي معي، لهذا لم أذهب إلي مجلس الفاتحة، كيف بي اصدق نفسي وهي تمضي إلي مثواها الأخير؟! محسن اطيمش والقاهرة، أو القاهرة ومحسن اطيمش، لا تدري يومها لمن تسافر فعلاً، فقد كانا معاً هناك وراء البحر الأبيض، وعندما عاد إلي بغداد أصابه الحنين، حتي أنه قال: - لو خيّروني الليلة بين العيش في (شيراتون) أو في (بولاق الدكرور) لذهبتُ فوراً إلي الدكرور وأبوس(شبرا المظلات) و (شبرا الخيمة) و (روض الفرج) و (دير الملاك). وهذه المناطق كلها من أفقر ما خلق الشيطان من فقر وجوع وكآبة وأوجاع وخراب، لكنها بالنسبة لمحسن اطيمش من أحلي ما خلق الله من إنسانية ونبل وفرفشة ونفس وكرم..حتي أنه يوم ذهبنا إلي شقة الشاعر أحمد عنتر مصطفي في دير الملاك قال فوراً: - سأطلق علي رسالة الدكتوراه عنوان هذا الحي البائس المدهش العجيب (وكان له ما أراد وظهرت رسالته بالعنوان نفسه). *** في شقته الصغيرة جداً، والتي احتوت علي غرائبه المضحكة الحلوة، من رسومات كاريكاتيرية ومجلات وأغاني محرم فؤاد ودبابيس ملونة وأقلام رصاص وروزنامات عالمية، هناك اجتمع العشرات من الأدباء والمهاجرين والرسامين وأرباب السياسة المخنوقين، بل اجتمع فيها أكبر أسماء المبدعين من العرب والعراقيين والتائهين والمحجورين في قمقم الحياة، أتذكر - وأنا معه - كم مرة جاء إلي بيته محمد عفيفي مطر، أمل دنقل، مالك المطلبي، عبد المنعم تليمة، خالد علي مصطفي، صالح هويدي، عبد الرحمن مجيد الربيعي، جمعة اللامي، شمس الدين موسي، أمجد توفيق، سليم السامرائي، محمد يوسف القعيد، جمال الغيطاني، وغيرهم العشرات من ممثلين وحشاشين ومهندسين ومقامرين. أتذكر كم كان كريما، هو المفلس الجميل الذي يرفض أن يعترف بإفلاسه، كم كان حيوياً نافراً مأخوذاً بالحياة والأحلام والأصدقاء، هو الذي ينام أكثر من نصف يومه من أجل أن يستعد ثانية للزوار والثرثارين وأهل زقاقه الذين يسألون: - متي تناقش رسالة الدكتوراه يا سي محسن. أجل(يا سي محسن) التي كان يحب أن يسمعها كل ساعة، فهذا حسنين القصاب وذاك محمد عطوة النجار والمعلمة هوانم الصيفي وغيث الدمياطي بائع الخمور والزبال وبواب العمارة والبوسطجي وبائع الجرائد، كلهم واللّه، حضروا مناقشة رسالته المسماة (دير الملاك). يومها، اختل توازنه بين محبة أهل المحلة وهم يرصدونه بحب كبير، وبين الكبار الذين يناقشون ذاك الفتي الناعم النحيف الذي جاء برغم أنوفهم ليحصل علي رسالة الدكتوراه بامتياز وتفوق يحسب للعراق الوطن قبل أن يحسب لذاك المحسن العذب الذي غادرنا بسرعة قبل أن نتمكن من غلق ملفه الشاسع الكبير، المملوء بالطيبة والدهشة والحلم الذي لم يستيقظ منه حتي ساعة موته.
معتادٌ،حين أعودُ وحيداً ثملاً
في منتصف الليل
أن أشعل مصباح ممّر البيت
وأدلف..
وكعادتها،تستيقظ زهرة عبّاد الشمس
تتمطّي في كسل
فوق بساط العشب المعتم
تلوي العنق بعكس الريح
تتلفت، ظامئة، حائرة
مندهشة
تبحث عن ضوء الشمس
حتي تيأس، أو تنعس
تتذكر أن الساعة منتصف الليل

فتغمض جفنيها.. وتنام
أما كانت حياتك هكذا يا محسن؟ أعني، أما كنت هكذا مثل زهرة عبّاد الشمس التي حكاها (عدنان الصائغ) فوق بساط العشب المعتم؟ سوي أنك حتي في منتصف الليل لا تنعس ولا تنام حتي يغادرك آخر زائر، وتنسي نفسك حين تخرج معه، إلي أين؟ لا تدري، فالقاهرة لا تنام، وأنت ما زلت في أول الضوء. *** اعذروني أيها الأصدقاء، محسن اطيمش بالنسبة لي، أكبر من كلماتي، كلماتي بصراحة أصغر بكثير من ذاك المحسن الحقيقي، الذي أغرقني بالسعادة أيام كنت أسافر ثلاث مرات في العام الواحد نحو (مصر)الجميلة الساهرة، واليوم بدأت أفكر ثلاث مرات في اليوم الواحد:ماذا يعني السفر إلي هناك إذا كان محسن اطيمش قد غادرها؟ وكيف أحصل علي إحساسي القديم البهي الرائع إذا كانت شوارع القاهرة قد نسيت صديقي وأغلقت جواز مروره حتي نهاية العمر؟ أعترف أمامكم، أن شرخاً أكبر من جسدي صار يؤلمني وأنا أحاول أن أصدق أن محسن اطيمش قد مات فعلاً، حتي أنه لم يكمل الخمسين ولم يشبع من مغانم الحياة ولم يكتب ما كان يحلم أن يكتبه، ولهذا - وكما الأطفال - أذهب بين يوم وآخر إلي أرشيفي وذكرياتي وذاكرتي والصور التي جمعتنا مع الأصدقاء، أنظر إلي محسن اطيمش أيام كان معي، وعفواً أقول:أيام كنت أنا مع محسن، وأسأل نفسي:هل مات محسن؟ أعني هل مات حقاً؟ وإذا كان محسن اطيمش قد مات فعلاً، لماذا باللّه عليكم ما زلت أسمع جرس صوته في هذا المكان وهو يسألني: - متي نري القاهرة مرة أخري يا ستار؟ سنراها يا محسن، قلت له:سنراها واللّه العظيم، سنراها أنا وأنت كما كنا نفعل في الماضي، سنراها ونشتهي أيامها ونعيش لياليها، سنراها دائماً، ذلك أنني أرفض أن تكون بعيداً عنها، وبالتالي سأرفض تماماً أن تكون بعيداً عني، يا صديقي، يا أعذب الأصدقاء وأكثرهم عذاباً، يا دنيا كاملة من الأصدقاء يا شجر الطفولة يا بيت صباي.. يا دموعي حين أضحك معك علي (شاهد ما شفش حاجة) ثم نمشي بعدها إلي مقهي الفيشاوي في الثالثة فجراً. تري هل رأيت شيئاً في حياتك يا محسن؟أجل، لقد رأيت الكثير يا صديقي الأثير، لكنك لم تشهد البقية، وهي أصعب من كل بقية! ها نحن في الليل، نهايات ليل القاهرة، صورة علي كورنيش النيل، تك، أنت أمام سينما ريفولي، تك، في شقة دير الملاك، تك، أمام باب شقتنا في الدقي، تك، صورة جمعتنا سهواً مع وردة الجزائرية، تك، صورة لا أحد فيها. ليرحمك اللّه، أنا جدّ حزين عليك، حزين عليك أكثر مما يظن الجميع، وفي الوقت نفسه أنا واللّه سعيد جداً من أجلك يا محسن، سعيد جداً من أجلك يا محسن اطيمش، فقد ذهبت في الوقت المناسب حقاً، ولم تشهد(القارعة) التي أحرقت اليابس والأخضر. نم هانئاً ..يا صديقي سنلتقي قبل احتلال قبورنا بيوم واحد.


ا(*) صحيفة الزمان ع 1966 في 13-11-2004 ، وموقع "ألف ياء على الأنترنيت
 
البحث Google Custom Search