أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الأثر الفني للبيئة في الإبداع الشعري السكندري

بقلم: أحمد فضل شبلول

الورقة التي أعدها الشاعر أحمد فضل شبلول للمشاركة في ندوة "الأثر الفني للبيئة في الإبداع الشعري الإقليمي" بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والثلاثين.
الإسكندرية مدينة ذات طبيعة خاصة، حافظت منذ تأسيسها عام 332 ق. م على تراث الشعوب، وكانت في وقت من الأوقات في أشد الحاجة لمن يحافظ على تراثها الفرعوني والهلينستي أو البطلمي واليوناني والروماني والقبطي والإسلامي والأندلسي والعربي، فضلا عن تراث الأجانب الذين وفدوا إليها واستقروا فيها ـ عقب تولي محمد علي باشا مقاليد الحكم في مصر عام 1805م ـ من فرنسيين وإنجليز وإيطاليين ويونانيين، ورومانيين وصقالبة، وشوام، ومغاربة، وعرب وأتراك وإسبان، وغيرهم من شعوب الأرض قاطبة، وشعوب دول حوض البحر المتوسط خاصة.

إن كل هذا أعطى للحياة في الإسكندرية طعما مغايرا للحياة في أية مدينة مصرية أو متوسطية أخرى، وكما أن البحر يمنح الإسكندرية وشعراءها، بعضَ أسراره، تمنحه الإسكندرية وشعراؤها حبهم وعشقهم، وأسرارهم الخالدة.
يقول د. سعد دعبيس في دراسته عن ديوان "بحرٌ آخر": "لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن أقرب تعريف للإبداع الشعري السكندري، إنه إبداع قائم على منهج أسطوري، وإننا إذا قلنا: "الشعر السكندري" فنحن نعني: "ميثولوجيا" البحر برموزها وأقنعتها، وصورها، وأخيلتها، وأساطيرها وألغازها؛ فشعر الإسكندرية هو: بحرها؛ وبحرها هو شعرها".
وقد انعكس هذا الحب المتبادل (أو هذه الميثولوجيا) بين البحر والشعر والمدينة، على الحياة الثقافية والأدبية بها، فشهدت ازدهارا في بعض الفترات، وانحسارا في فترات أخرى. تماما مثلما يشهد البحر حركة المد والجزر التي لا تنتهي أبدا، فهي من ناموس الكون، ورمزٌ لديمومته وخلوده الأبدي.
وعلى سبيل المثال هناك فترات زمنية طويلة ـ نسبيا ـ لا نجد فيها شاعرا أو أديبا ظهر في الإسكندرية، فالفترة منذ العصر القبطي (المسيحي) وحتى ما بعد الفتح الإسلامي لمصر تُعد مجهولة في تاريخ الأدب السكندري، ولم تذكر المراجع عنها شيئا، فهل كان الشعر، بل الحياة خامدةً في الإسكندرية في ذلك الوقت؟.
سؤال مطروح على الباحثين والدارسين، ونحن نتحدث عن شعر الإسكندرية اليوم، ونحاول أن نستعيده من بين براثن الماضي البعيد والقريب.
وعلى الرغم من الحقبة المجهولة للإسكندرية الثقافية التي ذكرناها آنفا، فإن الإسكندرية ظلت متوهجة بالشعر، وقد تحدثتْْ عن هذا بعض المقالات والكتب التي صدرت مؤخرا مثل: (شاعرات الإسكندرية، للشاعر د. فوزي خضر، وإسكندرية: الشعر والشعراء للشاعرة سناء الجبالي، ومقدمة كتاب شعرية الإسكندرية لفتحي عبد الله، فضلا عن محاولتي لرسم أحد جوانب المشهد الشعري السكندري في بعض تجلياته على امتداد الزمان من خلال كتاب "استعادة الإسكندرية").
يعد المشهد الشعري في مدينة الإسكندرية ـ عموما ـ جزءا لا يتجزأ من المشهد الشعري المصري، ولكن في الوقت نفسه ينماز هذا المشهد عن المشهد المصري الكلي في بعض التفاصيل والجزئيات التي تشكل عندما تتجمع إلى جوار بعضها البعض خصوصيةً وتفردا ما عن بقية المشهد الكلي.
ولعل هذه الخصوصية وهذا التفرد يعودان إلى خصوصية تلك المدينة الكوزموبالتينية التي تقع على ساحل المتوسط، وكانت مهوى الأجانب منذ القدم من يونان ورومان وإيطاليين وشوام وإنجليز وفرنسيين وأندلسيين .. وغيرِهم من الذين يعيشون على الساحل المقابل من الأبيض المتوسط منذ أن شُيدت تلك المدينة.
إن تاريخ الشعر في الإسكندرية يبدأ مع نشأتها، فقد اهتم بطليموس الأول ـ سوتر (الذي حكم البلاد من 323 ـ 285 ق.م) ـ وكذلك أبناؤه من البطالمة ـ بالمشروعات العمرانية والثقافية، فأسس مكتبة الإسكندرية (القديمة) وشيد منارة الإسكندرية (إحدى عجائب الدنيا السبع). وظهر كاليماخوس (310 ـ 240 ق.م) الذي جاء من قورينة بليبيا، واعتبر أول شاعر سكندري ومؤسس مدرسة الإسكندرية الشعرية، من خلال جماعة شعرية أسماها بليآد أو الحمام، أو نجوم برج الثريا، وقد رفض شعراء هذه الجماعة الملحمة الإغريقية بشكلها وحجمها، ودعا مؤسسها إلى كتابة القصيدة القصيرة جدا أو الإبجرامة (التي نرى في الشعر العربي المعاصر عودةً إليها). ثم الشاعر ثيوكريتوس أول من كتب القصائد الرعوية وصور حياة المزارعين واحتفى بالطبيعة. والشاعر أراتوس الذي نظم بعض القصائد العلمية في الفلك، والشاعر هيرونداس الذي اشتهر بقصائده الفكاهية التي يستلهم فيها الحياة الشعبية اليومية. والشاعر ليكوفرون الذي كتب صورا شعرية سيريالية في ذلك العهد القديم. والشاعر أبوللونيوس الذي عاد مرة أخرى إلى كتابة الملحمة الكبيرة (ومنها رحلة السفينة أرجو) فخالف بذلك اتجاه جماعة الحمام، والشاعر موسخوس الذي جمع بين الإبجرامات والقصائد الطوال، والشاعر بيون الذي مات في شرخ الشباب، واشتهرت قصيدته التي كتبها بعنوان "رثاء أدونيس".
وبذلك يتضح أن المشهد الشعر السكندري في أزهى عصوره القديمة، امتاز بالتنوع الذي حقق له الثراءَ الفني. فكان هؤلاء الشعراء باحثين، منهم من وضع فهارس مكتبة الإسكندرية مثل كاليماخوس، ومنهم من كان أمينا عاما لها.
وقد امتاز الشعر في الإسكندرية في تلك الفترة بالتجديد في الرؤية والبناء والأغراض. ومن أهم الكتب التي تناولت هذا الموضوع كتاب "الأدب السكندري" للدكتور محمد حمدي إبراهيم.
وتمتد رحلة الشعر السكندري حتى نصل إلى العصر الإسلامي، فيبرز في العصر الفاطمي أسماء شعراء أمثال: أبو الطاهر إسماعيل بن محمد الملقب بأبي مكنسة الإسكندراني (ت 510 هـ = 1116م) وأبو الفتح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف الذي اشتهر باسم ابن قلاقس (532 هـ =1127 م / 567 هـ = 1171 م) وظافر الحداد (ت 528 هـ = 1133 م) وتقية الصورية (ت 579 هـ = 1183 م)، وشرف الدين البوصيري (ت 696 هـ = 1259 م) صاحب البردة الشهيرة، وغيرهم.
ولعلنا نستطيع أن نعيد طرح السؤال الذي طرحناه منذ قليل عن الفترات الزمنية الطويلة التي لا نجد فيها شاعرا أو أديبا ظهر في الإسكندرية. فهناك فترات تعد مجهولة في تاريخ الأدب السكندري، ولم تذكر المراجع عنها شيئا.
ولعل بعض الإجابة عن مثل هذا السؤال نجدها في كتاب فورستر "الإسكندرية: تاريخ ودليل"، فعمرو بن العاص وأصحابه نفروا من الإسكندرية بشكل غريزي وبدت لهم الإسكندرية وثنية تافهة، وتمطَّى بعد ذلك ألف عام من الصمت على الإسكندرية.
***
أما في العصر الحديث، فيبدأ الشعر السكندري بجماعة الشلالات التي أسسها الشاعر عتمان حلمي (1894 ـ 1962) عام 1912م ومعه الشعراء عبد اللطيف النشار وزكريا جزارين (1897 ـ 1955) وعبد الحميد السنوسي (1898 ـ 1956) ومحمد مفيد الشوباشي (1899 ـ ؟) وحسن فهمي (1895 ـ 1930) وعبد الحكيم الجهني. ثم انضم لهم الشاعر عبد الرحمن شكري (1886 ـ 1958) العائد من بعثة إلى إنجلترا، فاحتل مركز الصدارة في هذه الجماعة، وصار الشاعر والناقد والمعلم، بما حمله من أفكار في تطوير القصيدة العربية.
لقد اهتمت جماعة الشلالات بسلاسة الشعر العربي، والابتعاد عن التعقيد اللفظي، والتعبير عن التجارب الذاتية، والتطرق إلى الموضوعات المبتكرة، وتصوير البيئة الساحلية السكندرية، وبذلك كونوا اتجاها فنيا يحسب للشعر السكندري.
وفي عام 1932م دعا كل من د. مصطفى فهمي، ويوسف فهمي الجزايرلي، لتكوين جماعة عرفت باسم "جماعة نشر الثقافة" لجمع شمل الأدباء ونشر إنتاجهم الأدبي، وكان من أبرز شعراء هذه الجماعة خليل شيبوب (1892 ـ 1951) وعبد اللطيف النشار (1895 ـ ؟ ) وفلورى عبد الملك، ومنيرة توفيق (1893 ـ 1965) صاحبة ديوان ""أنوار منيرة" الذي طبع عام 1967 بعد وفاتها، وكتب مقدمته السيد حمدي عاشور محافظ الإسكندرية وقتذاك.
هذا فضلا عن وجود شعراء آخرين ربما لم ينضموا إلى الجماعتين السابقتين: الشلالات ونشر الثقافة، من أمثال: الشاعرة اللبنانية التي أحبت الإسكندرية واستقرت فيها حتى آخر حياتها وردة اليازجي (1838 ـ 1924 ) وأحمد راسم (1895 ـ 1958) وفخري أبو السعود (1909 ـ 1940) الذي مات منتحرا بإطلاق الرصاص على رأسه وهو في نحو الثلاثين من العمر، وأصدر عنه الناقد الراحل د. علي شلش كتابا، كما كتب عنه الشاعر السكندري الراحل عبد العليم القباني، وآخرون.
ثم ظهر جيل عبد المنعم الأنصاري، وعبد العليم القباني، وأحمد السمرة، ومحمود العتريس، ومحمد برهام، ومحمد عبد الرحيم إدريس، ومحمد محمود زيتون، وإدوار حنا سعد، ومحمود عبد الحي، وعمر الجارم، ود. محمد زكي العشماوي، ود. محمد زكريا عناني، ود. لطفي عبد الوهاب، ومحجوب موسى، ود. علي الباز، ووصفي صادق، وغيرهم، فكتب أحمد السمرة المسرحية الشعرية ومنها: رئبال، وساق من ذهب، إلى جانب قصائده التي جمعها في ديواني أنسام وأنغام، وقصائد إسلامية، وأصدر عبد المنعم الأنصاري ثلاثة دواوين شعرية هي: أغنيات الساقية، وعلى باب الأميرة، وقرابين، وأثارت قصائده العمودية جدلا واهتماما واسعا. أما عبد العليم القباني فكان من أكثر شعراء جيله حرصا على تنوعات إصداراته التي وصل عددها إلى ثلاثة وعشرين كتابا، وهو لم يكتف بإصدار الدواوين الشعرية، والتي منها: بقايا سراب، وأغنيات مهاجرة، وإنما اهتم أيضا بكتابة المسرحية الشعرية مثل: قوس قزح، وحدث في قصر السلطان، والملاحم الشعرية مثل: ملحمة الثورة العرابية، وملحمة الثورة الفرنسية، كما كتب شعرا للأطفال، ومنه ديوان "في حديقة الحيوانات"، كما كتب البحث الأدبي والدراسات الإعلامية، والأغاني والأزجال، وغيرَها من الإصدارات. فكان بذلك أكثر شعراء عصره في الإسكندرية إصدارا للكتب الثقافية المتنوعة. وهو يُعد أول أديب سكندري يصبح عضوا في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر.
وقد لعبت قصور الثقافة ـ وعلى وجه التحديد قصر ثقافة الحرية ـ دورا كبيرا منذ الستينيات في تقديم عشرات الشعراء في الإسكندرية إلى جمهور الشعر في مصر كلها، وبرز جيل جديد اهتم بتطوير القصيدة العربية في الإسكندرية، ومغازلة شعر التفعيلة من شعرائه: فؤاد طمان، وسعيد نافع، وفهمي إبراهيم، وصبري أبو علم، وأحمد عبد العظيم الشيخ، ومحمد رفيق خليل، وحامد نفادي، ويوسف العيشي، وعزيزة كاتو ومهدي بندق، ود. فوزي عيسى، ود. صالح اليظي، وعبد الصبور منير (الذي توفي في الجزائر) وعبد الله الوكيل، ود. محمد عزيز نظمي وغيرهم، وكوَّن بعضُهم جماعةً شعرية عرفت باسم "أبوللو الجديد"، غير أن هذه المجموعة لم تهتم بإصدار دواوين شعرية، باستثناء صبري أبو علم الذي أصدر ديوانا واحدا حتى الآن، هو "قصائد حب"، وعزيزة كاتو التي أصدرت ديوانا واحدا حتى الآن أيضا، هو ديوان "يوميات امرأة تبحث عن هوية"، وأيضا باستثناء الشاعرين فؤاد طمان وحامد نفادي اللذين أصدرا أكثر من ديوان.
أما الشاعر مهدي بندق ـ الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في المسرح ـ فقد اهتم بالمسرح الشعري اهتماما كبيرا وأصدر عدة مسرحيات شعرية، منها: ريم على الدم، والسلطانة هند، وليلة زفاف إلكترا، وغيلان الدمشقي، وهل أنتَ الملك تيتي؟ وآخر أيام إخناتون، وهيباتشي (أو هيباتيا) الجميلة، وغيرَها، فضلا عن إصداره لمجلة أحدثت صدى طيبا لدى الأوساط الثقافية في مصر هي مجلة "تحديات ثقافية".
يأتي بعد ذلك جيل السبعينيات في الإسكندرية، ومن أهم شعراء هذا الجيل: فوزي خضر ـ ـ الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية ـ صاحب أطول قائمة للكتب في جيله، ليس في الإسكندرية وحدها، وإنما في مصر كلها، فله حتى الآن أكثر من خمسة وأربعين كتابا ما بين الدواوين الشعرية، والدراسات الأدبية، وكتب الأطفال، والرحلات، والتراجم، فضلا عن كتاباته الدرامية للإذاعة، ولعل برنامجه الإذاعي اليومي الشهير "كتاب عربي علَّم العالم" بإذاعة البرنامج العام، يُعد من أهم البرامج الإذاعية في هذا المجال. وقد اهتم فوزي خضر بتطوير قصيدته، فلجأ إلى القصيدة المدورة، والقصيدة الإبجرامة (القصيرة جدا)، إلى جانب القصيدة التفعيلية، وهي السائدة في معظم دواوينه، وأحيانا القصيدة العمودية، كما تنوعت موضوعاته وأساليبه الشعرية.
أيضا هناك من شعراء هذا الجيل: عبد الحميد محمود ـ الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر ـ ومرسي توفيق، وعبد المنعم كامل، وعبد المنعم سالم، وأحمد محمود مبارك، وعبد الرحمن عبد المولى، ومحمد عبد الفتاح الشاذلي، وربيع عبد العزيز، وعاطف الحداد، ومحمود عبد الصمد، وأحمد شاهين، وناجي عبد اللطيف، وأحمد فراج، ومحمد فرج، وإسماعيل الشيخة، ومحمود إدريس، وهدى عبد الغني، وصاحب هذه السطور، وكل منهم أصدر أكثر من عمل مطبوع، باستثناء عبد المنعم سالم الذي أصدر مؤخرا ديوانه الأول "الآبق من حفل صاخب"، وصاحب هذه السطور الذي أصدر أكثر من ثلاثين كتابا تنوعت ما بين الدواوين الشعرية (آخرها: بين نهرين يمشي) والكتابة للأطفال، والدراسات الأدبية والنقدية، والمعاجم اللغوية (مثل معجم الدهر، ومعجم أوائل الأشياء في اللغة العربية) فضلا عن المشاركة في أعمال أدبية وموسوعية مع آخرين.
ويأتي جيل جديد في الثمانينات والتسعينات، يحمل ـ إلى جانب الشعراء السابقين ـ مشعل الشعر في الإسكندرية، ومن شعرائه: جابر بسيوني، وأحمد شاهر، وأيمن صادق، ومحمود أمين، ومحمد مصطفى أبو شوارب، ومراد حسن عباس، وعلي عبد الدايم، وعزة رشاد، وبشرى بشير، وحنان فاروق، وكاميليا عبد الفتاح، ومصطفى تمَّام، وعادل خليل، ومختار عطية، وحسني منصور، وعصام عبد الوهاب، ورحاب عابدين، وأماني شكم، ورضا فوزي، ومحمد شكري، وعنتر حربي، ومحمود الفحام، وشهدان الغرباوي، وأحمد عوَّاد، ومنال الشربيني، وأحمد الفلو، وأمل سعد، وعمر عبد العزيز، وسناء الجبالي، وانتصار الهلباوي، وشيماء حسن، وغيرهم، وقد أصدر كل منهم ديوانا شعريا واحدا على الأقل، أو في طريقه للإصدار الأول.
ولا نستطيع أن نُغفلَ نشاط جماعة شعرية ظهرت في منتصف الثمانينات بالإسكندرية هي جماعة الأربعائيون، والتي اتخذتْ من صالون الشاعر الراحل عبد العظيم ناجي في منزله بجناكليس، مكانا لها حيث كان الأعضاء يجتمعون فيه مساء كل أربعاء، وأصدرت الجماعة مجلة باسمها، وانضم إليها معظم من كانوا يجربون كتابة قصيدة النثر في الثغر من أمثال: حميدة عبد الله، وناصر فرغلي، ومهاب نصر، وعلاء خالد وغيرهم. وعلى الرغم من عدم تواصل هذه الجماعة مع بقية الجماعات الأخرى في الإسكندرية، على اعتبار أن أعضاءها يقدمون إبداعا مغايرا لما هو سائد في قصور الثقافة، إلا أن أسباب توقفها تدعو إلى التساؤل والتشكك في مدى إيمان أعضائها بما كانوا يمارسونه ويبشرون به كتابة ونقدا.
أيضا لا نستطيع أن ننسى نشاط ورشة الشعر بأتيليه الإسكندرية (جماعة الفنانين والكتَّاب) برئاسة الشاعر والفنان د. محمد رفيق خليل، والذي يضم مجموعة من شباب الشعراء منهم: حاتم الكاتب، وأمينة أحمد حسن، وفاطمة زكي، وفاطمة قتيبة (البُراء العراقي)، وسامي إسماعيل، وإيمان عبد الحميد، وصفاء عبد العال، وعبد الرحيم يوسف، وأحمد يحيى، وغيرهم. وقد أصدرت الورشة مجموعتين من الشعر بعنوان "الورشة" لأعضائها، فضلا عن تنظيم مؤتمرين للشعر في العامين الأخيرين، لاقا نجاحا طيبا.
هذا باختصار مُخل ـ بطبيعة الحال ـ أهم الخطوط العريضة للمشهد الشعري في الإسكندرية في جانبه الفصيح.
***
ولعلنا إذا أردنا أن نتتبع الأثر الفني للبيئة السكندرية في إبداع هؤلاء الشعراء، فسوف يحتاج الأمر إلى مجلدات، ذلك أن البيئة السكندرية الخصبة والمتنوعة، وخاصة البحر، تلعب دورا بارزا في إنتاج معظم هؤلاء الشعراء، وإذا توقفنا فحسب أمام عناوين الدواوين الشعرية، فسنجد على سبيل المثال ديوان "بكائية على البحر" للشاعر فؤاد طمان وقد أهداه إلى الإسكندرية، فقال "للإسكندرية ملهمتي الخالدة".
يقول في قصيدته التي حملت عنوان الديوان:
كان "إيليتُ" يُغلقُ أبوابَهُ ..
والمدينةُ في أوَّلِ الليلِ نائمةً
والمقاهي التي يلتقي الشعراءُ بها
في ليالي الشتاءِ المطيرةِ، خاويةٌ ..
وأنا للمساءاتِ مُنتسبٌ ..
فإلى أين أذهبُ في هذه الغربةِ الواسعة؟!
سرتُ وحديَ .. والبحرُ أسودُ .. أسودُ ..
قابلتُ أصحابيَ الشعراءَ المساكينَ ..
أشعلتُ غُليونَ "يوسفَ" ..
(كان كعادتِه صامتًا وودوداً) ..
وأشعلَ من حولنا "أملٌ" نارَه ..
نَهَرَ البحرَ مُستنطقا صَخْرَه:
"أيها البحرُ .. أين الذي قد وعدتَ به؟!
أين هذا الذي نفتديهِ بأيامنا؟!"
ورثى "مُنْعمٌ" حُلمَه ..
وبكى عند بوابةِ السجنِ مُهجته الضائعة!
أمسِ كان طلولا
وقلبُ المدينةِ كان على ـ غيرِ عادتهِ ـ مُوحشا
موحشًا سيظلُّ! فقد رحل العاشقونَ ..
ومَنْ لم يسافرْ، مشى وحدَه "للفنار" القديمِ
هنالك يذرعُ أرصفةَ البحرِ ..
منتظرًا طيفَ مَنْ لن يعودَ
على السفنِ الراجعةْ!
..
لم يعدْ غيرُ هذا الصديقِ الوحيدِ ..
وظَلَّ "كفافي" الذي يتأرجحُ
بين المدينةِ، والسفنِ المبحراتِ إلى المدنِ الخادعَةْ ..
لم يعدْ غيرُ نورٍ شفيفٍ،
على وجهِ محبوبةٍ من زمان الطفولةِ،
مغسولةٍ بالعبيرِ ..
لها الوردُ عرشٌ .. لها نظرةٌ عذبةٌ ضارعة!
ولعلنا من أول وهلة نلاحظ الأثر الفني، أو التوظيف الفني، أو خصوصية البيئة السكندرية في تلك القصيدة، منذ أن ذكر الشاعر "إيليت"، وإيليت ـ لمن لم يعرفه ـ أحد المقاهى أو الكافتيريات ـ بشارع صفية زغلول (بجوار سينما مترو) اشتهر برواده من الجاليات الأجنبية، وكان الشاعر كفافيس يتناول إفطاره اليومي به. وعندما جاء الشاعر أدونيس إلى الإسكندرية في العام الماضي حرص على الجلوس في هذا المكان استلهاما لروح كفافيس. إذن فإيليت ليس مجرد مكان، وليس مجرد مقهى أو كافتيريا، ولكنه أثر ثقافي، بل مؤثر ثقافي أجنبي مصري سكندري (كوزموبالتيني)، وعندما يستدعي الشاعر فؤاد طمان هذا المكان في بداية قصيدته، يستدعي معه عصرا بكامله.
أيضا عندما زار الشاعر العراقي (المقيم في السويد) عدنان الصائغ الإسكندرية مؤخرا، واستمع مني عن "إيليت" أصر على زيارته، فالمكان ليس مجرد مبنى وطاولات وكراسيَ وعاملين ومشروبات ومأكولات، ولكنه تاريخ ثقافي وعبق حضاري يحمل سمة من سمات مدينة الإسكندرية، ربما لا تتوافر لغيرها من المدن الساحلية، استطاع فؤاد طمان أن يفتتح به قصيدته "بكائية على البحر".
واستدعاء أسماء أدباء وشعراء آخرين في القصيدة، أمثال: د. يوسف عز الدين عيسى، وأمل دنقل، وعبد المنعم الأنصاري، وكفافيس، لم يكن حلية للقصيدة، ولكن مثل هذه الأسماء تدخل فضاء النص، لأنها جزء من التجربة الشعورية، وجزء من تاريخ الإسكندرية، وجزء من بيئتها الثقافية، فيوسف عز الدين عيسى ـ أستاذ علم الحشرات ـ الذي رفض الإقامة بالقاهرة بعد أن أصبح رائدا من رواد الدراما الإذاعية والتلفزيونية (العسل المر، ولا تلوموا الخريف، وغيرهما) وكان صديقا لتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وثروت أباظة، يجلس إليهم يوميا في إقامتهم الصيفية بالمدينة ـ صار جزءا من التاريخ الثقافي للإسكندرية، وعندما يرد ذكره في قصيدة فؤاد طمان، يعني استدعاء فترة حيوية من بيئة الإسكندرية الثقافية التي كان عز الدين عيسى ـ بغليونه الشهير ـ نجما من نجومها.
في تلك الفترة أيضا عاش الشاعر أمل دنقل جزءا من حياته في الإسكندرية، وخالط المجتمع الأدبي والثقافي بها، وصار جزءا من تاريخها الشعري الحديث، ولهذا يعتز أمل جدا بتلك الفترة التي عاشها في الإسكندرية، فيهدي ديوانه "مقتل القمر" إلى الإسكندرية سنوات الصبا، ويكتب عنها قصيدته الجميلة "أجازة فوق شاطئ البحر"، وغيرها.
أما عبد المنعم الأنصاري فهو أحد شعراء الإسكندرية الذين عاشوا محنة كبيرة زلزلت كيانه وشعره، فكتب أروع قصائده، وهي محنة إعدام ابنه طلال، بسبب اشتراكه في محاولة انقلاب فاشلة على الحكم في الفترة الساداتية، فيما عرف باسم قضية الكلية الفنية العسكرية، ولنا نتصور كيف كانت الحياة الشعرية التي كان يغشاها الأنصاري بقصائده المعبرة عن حالته النفسية خلال تلك السنوات، إلى أن خُفف الحكم على ابنه، ثم قضى العقوبة المطلوبة في السجن، وخرج بعد رحيل والده.
إذن فوجود الأنصاري في قصيدة فؤاد طمان ليس عبثا، ولكن الأنصاري حمل جزءا من تراث الإسكندرية الثقافي والشعري عندما تثور، وللثورات في الإسكندرية القديمة تاريخ طويل، يدلنا عليها كتاب مهم هو "العصر الذهبي للإسكندرية" لمؤلفه الإنجليزي جون مارلو وترجمة نسيم مجلي، والذي صدر عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة. وعلى الرغم من ذلك فقد كان الأنصاري يبدع في الإطار العمودي ولم يثُر عليه. لذا فقد ظل حاضرا في وعي ولا وعي طمان، وفي وعينا ولا وعينا ـ نحن أبناء الإسكندرية ـ جميعا.
أما الشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس (17 أبريل 1863 ـ 29 أبريل 1933)، فقد كان لابد أن يتسلل إلى قصيدة فؤاد طمان، خاصة بعد أن تحول منزله في حي العطارين (خلف مسرح سيد درويش) إلى متحف يؤمه كل من زار الإسكندرية من الشعراء والأدباء والفنانين العالميين، وقد شاهدت بنفسي سجل زوار ذلك المتحف وقد سجل فيه كلمة كل من زاره منهم، وكان آخرهم، عندما زرته في الصيف الماضي، الشاعر محمود درويش. إذن فقد أصبح بيت كفافيس مزارا سياحيا، وأصبح مَعْلَمًا مهما في البيئة السكندرية الحالية. أما أعماله الإبداعية التي تركت بصماتها على الحياة الأدبية والثقافية في الإسكندرية ـ وخاصة لدى الجاليات الأجنبية في تلك المدينة الكوزموبالتينية ـ فكثيرة. لقد أشار الروائي الإنجليزي لورانس داريل إلى كفافيس واصفا إياه بأنه "روح الإسكندرية الخالدة"، وهو كذلك بالنسبة للأجانب، لذا ظل يتأرجح بين المدينة والسفن المبحرات إلى المدن الخادعة، كما قال فؤاد طمان في قصيدته التي حملت نبص الإسكندرية، والتحمت ببيئتها الثقافية والبحرية، فكانت خير تعبير عن عنوان تلك الورقة "الأثر الفني للبيئة في الإبداع الشعري السكندري".
أيضا تركت الإسكندرية بصماتها الواضحة، بل روحها الحانية، وأساطيرها الخالدة، على كل من عاش فيها من الشعراء المصريين والعرب والأجانب.
يقول كفافيس في قصيدته الشهيرة "المدينة" ويعني الإسكندرية بطبيعة الحال:
قلتُ: سأذهب إلى أرض أخرى .. سأذهب إلى بحر آخر .. مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه .. لكن محاولاتي مقضيٌّ عليها بالفشل .. فقلبي مدفون هنا في هذه المدينة .. لن تجد بلدا ولا بحارا أخرى .. ستلاحقك المدينة .. وستهيم في الشوارع ذاتها .. وستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها .. ستصل على الدوام إلى هذه المدينة .. لا تأمل في بقاع أخرى .. ما من سفن من أجلك .. وما من سبيل .. ومادمت قد خرَّبت حياتك هنا في هذا الركن الصغير، فقد خرَّبتها في كل مكان في الوجود".
ونُنهي ورقتنا هذه بما قاله د. سعد عبيس في دراسته عن ديوان "بحر آخر":
"إن الشعر في الإسكندرية .. لا يمكن أن يصل إلى المتلقي، إلا عبر أمواج البحر، و"نواته" ولا نهائية آفاقه، وتناغم ثقافاته وحضاراته عبر التاريخ. إن وراء هذا البحر وتلك الرمال، طلَّسمَيْن يسكنان أعماق الإسكندرية، وعبثا .. يحاول أيُّ متلقٍّ غريب عن هذين المدخلين .. أن يصل إلى سِحْرِ إبداعها، وإعجاز فنونها. إنها مدينة أقرب إلى مدن الآلهة الإغريقية القديمة، البحر فيها ـ كما وصفه شاعرهم الأكبر "هوميروس" ـ: "بحرٌ من الخمر السمراء".


مجلة أنهآر - العدد 42 - فبراير 2004
 
البحث Google Custom Search