أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
حين يصبح النص أكثر شاعرية من الشعر

عزمي خميس
عُمان

ذاكرة مزدحمة بالصور والذكريات تنثال وتتدفق عبر المخيلة، اجترار للاماني، لحظات الحب، رفقة الأصدقاء، جلسات المقاهي، الشوارع، المدن، قنابل الحرب، الظهيرة اللاهبة، ندى المساءات، الشرفات، شعر الحبيبة الطويل، القصائد، مواقف الباصات، الحزن، الانكسار، المدن، الأدباء، الكتب، الأرصفة، الفوضى، الضياع.
هذا هو عالم عدنان الصائغ الشعري الذي ينهل منه بلا ملل ولا كلل، لكأنه خزانة ذكريات لا حدود لها، لكأنه غادر هذا العالم الأرضي ولم يبق لديه سوى هذه الذكريات يجترها ويعيش عليها، ويعيد صياغتها، ورغم ان عدنان الصائغ كتب على ديوانه الصادر حديثا بعنوان "مرايا لشعرها الطويل" انه نصوص، ربما هروبا من اشكالية الشعر والنثر، فان كل سطر في هذه النصوص يكتنز بالشعر، بل بروح الشعر.
عدنان الصائغ باعادة طبع هذا الديوان عن "دار الواح" في مدريد، و"دار أزمنة" في عمان، بعد أن كانت طبعته الأولى قد صدرت عام 1992 في بغداد، وكذلك بعد اصداره 12 ديواناً، وبعد ترجمة أشعاره للانجليزية والفرنسية، والهولندية والسويدية والاسبانية والالمانية وكثير من اللغات الاخرى، وبعد حصوله على العديد من الجوائز العالمية في الشعر كجائزة هيلمان هاميت في نيويورك عام 1996، وجائزة مهرجان الشعر العالمي عام 1997 في روتردام في هولندا، وبعد استقراره في السويد منذ عام 1993.
أقول... باعادة طباعة هذا الديوان ثانية، فأنه يعيد التأكيد على اصالة قصيدة النثر التي يحب أن يسميها نصوصا.
وإذا كانت "الشعرية" كمصطلح لا تجد اجماعا ولا تعريفاً مانعاً، فأن الحقيقة أن شعرية النصوص هي شيء شبيه بالسحر، لا يكاد يُرى، بل يحس ويتم تذوقه بلا كيف، ولا وصف.
شاعرية نصوص عدنان الصائغ لا جدال فيها، فهي كتابة تنتمي إلى الشعر بكل ما في الكلمة من معنى، وتضيف للشعر هذا التدفق السردي، وهذا الوصف الخارج على القوالب والعروض والتفاعيل، لكنه داخل في منطقة الشعر، من حيث الصور والمشاعر، واللغة والموضوعات.
قصائد هذا الديوان مغلفة بحزن ثقيل، وضياع مروع، ذلك أن هذه الذاكرة تختزن داخلها دما ودموعا وقهرا ولوعات تؤدي للجنون، يقول:
"ما أن أجلس على الكرسي - ذات نهار مشمس -
صالباً ساقي اللتين شوهتهما الحرب
ومحدقاً في بريد الشوارع وهو يحمل لي
بطاقات الاصدقاء المفقودة،
والكسل، والباصات المسرعة، وغيوم الدهشة
مسترجعاً أمام عينيك السوداوين تاريخ حزني الطويل
وبمجرد أن أرمش جفني
تتساقط صور القنابل بدل الدموع".
الخيط الذي يشد هذه النصوص، هو تلك المرأة التي تحتل مساحة شاسعة من الذاكرة، والتي لا نعرف عنها إلا أنها ذات شعر طويل.
"قلت لها: يربكني شعرك الطويل
وأقصد: إني أمد يدي إلى وسادتي فأجد خصلاتك مبعثرة
وأحلامي مبعثرة
وسريري فارغًا ووحيدا مثلي".
والحرب وذكريات القنابل والمدافع تشكل فاجعة الذكريات التي تنشر خرابها في قلبه.
"أصداء المدافع تحاصر نعاسي المرتبك
وكذلك ذكرياتك
أخرج رأس أحلامي من النافذة
فتحاصره سماء مليئة بالثقوب"
والوحدة والغربة وانتظار مالا يأتي، كأن العالم أقفر من الأصدقاء والحبيبات ولحظات الفرح، تيمات تتكرر في هذه القصائد:
"مرت آلاف الأنهار والطيور والمدن والكتب
والهموم والشوارع
ومازلت تنتظر قطار فرحك
حتى أعشبت قدماك من الوقوف
بائع السجائر هز كتفيه ساخرا ومضى
الشرطي اكتفى بشتيمة عابرة
بائعة الحب التفتت مرتين، ثم بصقت
مفتش المحطة.. قال:
لقد رأيت في حياتي كثيراً من أمثاله.
هؤلاء المجانين.. ماذا ينتظرون؟"
وفي قصيدة أخرى بعنوان "عناءات" يقول:
"متى أستريح
من أورثني هذا الحنين والبكاء والتسكع
روحي مدينة مهجورة
تبحث عمن يرممها
أدير قرص الهاتف
لا أحد
أبعث برسائل لا عنوان لاصحابها
أطرق أبواب الصحف
لا قصيدة عندي تصلح للنشر
ماذا أفعل؟"
وفي قصيدة دالة على توقه إلى لغة جديدة، وأساليب تعبير جديدة تتسع لما في قلبه من مشاعر يقول:
"أريد لغة أكبر من هذا، أكبر من هذا الصراخ الذي يشق حنجرتي، أكبر من هذا الفرح المجنون الذي.. أريد يا رب لغة أكبر وأشرس وأدق وأعذب وـكثر قدرة على التعبير و(التمويه) تماماً بعيداً عن قوانين الاعراب الصارمة، وزخارف البلاغة التي أماتت كثيرا من أحاسيسي، أريد لغة أكبر من لغتي هذه، وأعتذر لقلبي، فما عودتني أحزاني السابقة على طاقة الفرح هذه التي تدفقت في شرايين الشوارع فجأة، حتى كادت تغص".
ولعلها القصيدة الوحيدة التي تحكي عن الفرح، لكن ملاحظة تاريخها وهو 8/8/1988 يوم انتهاء الحرب العراقية الايرانية يكشف سرها.
فالسنوات الثماني للحرب هي التي حشدت في قلبه كل هذا القهر وهذا الخراب وهذا الضياع والحزن، الممتد على قصائد الديوان.
ديوان مرايا لشعرها الطويل لعدنان الصائغ علامة أكيدة على أن قصائد النثر يمكن أن تكون أكثر شاعرية من الشعر.


(*) نشر في صحيفة "الوطن" القطرية 12/10/2003
 
البحث Google Custom Search