أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
ذاكرة الحرب

قراءة في قصائد عدنان الصائغ
(1 من 2)

علي حيدر

عقب انتهاء الحرب مباشرة.. في العام 1988 أثيرت في العراق ضجة كبيرة في منتدى الأدباء الشباب حول ما يسمى بجيل الثمانينات الشعري..
هل هناك ما يمكن أن نسميه جيلاً ثمانينياً أم لا؟.. وكان الرأي السائد أن لا جيل ثمانينات في العراق.. انهم السبعينيون الذين امتدوا ليحتلوا مجال جيل جديد.. جيل فتح عينيه على مشاهد الحرب.. السبعينيون الذين قرأناهم يفتحون نوافذ الشعر, كان سوء طالعهم بانتظارهم, فما أن خطت شواربهم حتى سبقوا إلى موتهم الحتمي مرغمين.. إلى مراكز التدريب ثم إلى علب الموت الخشبية ذات الرائحة النتنة, تركوا قصائدهم في جيوب بذلاتهم العسكرية الوسخة:
"عطشي إليك
لا يدانيه سوى عطش الحسين"
قصاصة شعرية وجدت في حقيبة الشاعر (الملازم الأول المفقود حسين عبد الجليل) استحال بعض الشعراء السبعينيون إلى ركام (قتلى).. والبعض الآخر إلى ركام شعري, بينما شاخ آخرون وهم يجتازون السنة العاشرة في خدمة العلم, تحولت قصائدهم الطافحة بالألق إلى (برقيات عسكرية سريعة), إلى قصائد رثاء لشعراء سقطوا على السواتر الأمامية رغم أنهم يودون لو يمضون بقية العمر في مقهى شعبي قديم.. أو يتمشون على رصيف.. أو ينامون كالأطفال في أحضان أمهاتهم.. لكنهم فعلوها..
ناموا في أحضان أمهاتهم.. وإلى الأبد.
عدنان الصائغ.. الشاعر.. المقاد إلى الحرب عنوة.. لكنه يفلت من جحيمها فيشن عليها حرباً شعرية.. و..شتان.
في قصيدة (خرجت من الحرب سهواً), يداهمك الصائغ بقصيدة هي في الواقع مصطلحات عسكرية ترغمك على قراءتها لا لشيء إلا لأنك تبحث فيها عن قتيل ربما تعرفه عن جرح لا زال ينزف.. عن شظايا علقت.. ولما.
في العام 1990 قدم المخرج غانم حميد (هذيان الذاكرة المر) المسرحية الشعرية التي حفلت بقصائد الصائغ ليحكي فيها قصة معاناته.. معاناة الجندي العراقي وأزماته دون أن ينسى أن يمرّ على التفاصيل الصغيرة في حياة الجندي (السريعة).. الحب.. كراج النهضة.. العريف.. أقراص الفاليوم.. الخ, وفي العام ذاته.. صدرت للشاعر مجموعة شعرية (سماء في خوذة) والتي انصبّت في مجملها عن الحرب.
في إحدى القصائد يعالج شاعرنا قضية جندي اعتاد أن يقطع بطاقة التذاكر (للسفر في القطار) من خلال شباك التذاكر الصغير والذي تجلس خلفه عادة موظفة جميلة اعتادت هي الأخرى أن ترى المسكين بين الفترة والأخرى..
(يبدأ الهجوم.. تسقط القذيفة.. تبتر أصابع يد الجندي), ثم يعود الجندي بعد شفاءه ليقطع التذاكر (ليستأنف موته) لأنه لم يمت بعد.. لكنه كان خجلاً من أن يمد لفتاة التذاكر إصبعين فقط هما كل ما تبقى من يده.. يجتاحه خجل مخيف.. إلا أن الصائغ يبدد خجل الجندي في نهاية القصيدة ليقول:

"ربما علمتها القنابل
          أن الأصابع في الحرب
                              مثل التذاكر"

يخرج الصائغ سهواً من الحرب ليكتب لنا شعراً لكنه كمن ينفض ثيابه بعد انتهاء الهجوم المباغت.. أو كمن يعلق جواربه العسكرية السوداء على جدار الملجأ المتهدم.. خمس وأربعون مفردة (عسكرية) تجدها في قصيدة واحدة فقط:
(السرفات.. الشاحنات الطويلة.. مستشفيات الحروب.. الثكنات.. المدافع.. الطلقات.. القنابل.. الرصاص.. الشظايا.. الحطام.. الشهداء.. الحرب.. الخنادق.. المعارك.. الجنرال.. اللحم.. الدمع.. الدم.. الضماد.. اللغم.. الطائرات):

"لكنني – والقصيدة لم ترها بعد عين الرقابة –
لا أخطئ الوجع المر
حين نمر على وجل الأمهات
تسمرن فوق رصيف المحطات
يسألن من يعبرون إلى الحرب
أن يأخذوا ليلهن الطويل مناديل دمع
تضمد جرح المسافة
بين الرصاصة والدعوات
يكابرن صبر السنين أمام الأسرّة فارغة
في مستشفيات الحروب
(يشرون فوق حبال الرياح شراشف
من رحلوا.. كي تجففها للذين
سيأتون عما قليل..." – (خرجت من الحرب سهواً)-

هو جيل الحرب إذن.. ليس سوى الرحيل المفاجئ لصديق كنتما معاً قبل أسبوع تطرقان كل أبواب المدينة..وليس سوى الدم/ الدمع.
ألفان وعشرون يوماً يقضيها كما السعدون في الجبهة.. ليكتب هو الآخر في العام 1989 من قصيدة (الروح في المزاد):
هي هذه الألفان والعشرون يوماً
رحلة الأنفاس في جسد الأتون
بضاعة للموت.. أو للرعب والدم والشظايا
فالجرح نظره انسكاب النزف ما بين الحنايا
هي رحلة بين الرصاصة والرصاصة
                        والتحف والسكون..
هي خطوة للأفق أما أن تكون مسارها
                                     أو لا تكون.
عودة إلى قصائد الشاعر عدنان الصائغ الذي يكتب لحبيبته.. لكنه لا يلبث أن يعود ليضمخ مفرداته برائحة القصف وأزيز الشظايا ليملأ قصيدته بالقلق الحربي:

"أنت لو تفهمين إذن
كيف تجمعني الحرب في طلقة
ثم تنثرني في شظايا المدن
اقلبي الصفحة الآن
لا وقت
أن القنابل تقتسم الأصدقاء"

هكذا كأنما يستلهم الشاعر من مفردات الحرب استعارات لمعاني معينة لنجد في شعره
1. سأفتح (مشجب) قلبي لكل حماقاتكم
2. نهار القصيدة تشطبه (الطائرات) على لوحة الأفق
3. صور الأصدقاء الذين مضوا في بريد (المعارك)
4. برجك تملؤه (الوفيات) وبرجي تملؤه (الطائرات)
5. (الحرب) تعلك أيامنا
6. في بريد (القذائف)
7. ثم تنثرني في (شظايا) المدن
8. فتاة ترش (دمانا) على الأصص النائمة
9. حيث المذيع يغمس (بالحرب) كعك الصباح
هل يعني كل ذلك أن الحرب لم تنته بعد.. فهذا الدوي الذي نسمعه/ نقرأه في قصائد الخارجين من الحرب سهواً/ عمداً
وهذا نزيف قصائدهم ما زال طرياً
وهذا انفجار امتعاضهم يشظي مفردات الشعر وهي تطرق أبواب الشعر كلها بلباس عسكري
فهل يمكن القول أن الصائغ ذاكرة الحرب.. وهذيانها المرّ؟

خوذة

وما طاوعتني القصيدة
كان الوطن
على الساتر المتقدم يحصي شظاياه والشهداء
وصحبي يعدون للمدفعية بعض الفطار المميت
وينتظرون لمائدة الحرب أن تنتهي
سقطت خوذة
فتلمست في رئتي موضع الثقب منها
امتلأت راحتي بالرماد
سقطت خوذة
فتلمست في وطني موضع الثقب منه
شرقنا معاً بالدم المتدفق
من يوقف الدم
من؟
سقطت خوذة
ثم أخرى وأخرى
نظرت لموتي المؤجل يرمقني ببرود
ويخلع خوذته
            وينام..


( في الكوفة ولد عدنان الصائغ عام 1955 له ستة اصدارات شعرية يعيش الآن في الأردن).


(*) صحيفة "كل شيء" / تورنتو – كندا في 17/4/1997
 
البحث Google Custom Search