المعادلة الصعبة في "أغنيات على جسر الكوفة"
يوسف الأسدي - بغداد -
صدر عن منشورات أمال الزهاوي ببغداد ديوان للشاعر الشاب عدنان الصائغ بعنوان "أغنيات على جسر الكوفة". عندما يكتب المبدع عن الواقع، الموضوع خارج الذات، خاصة حين يتفاقم الصراع وتتعدد نقاط محاوره، فأنه لا يستعيد ما يجري أمامه كأدوات تعبير تمرر ما تضطرب به ذاته وهو يتنفس علاقاته خلالها، بل يدرج نفسه داخل حركة الجموع المعانية، منعكساً، منتمياً، مطروحاً، في غرفتها، كحالة إنقاذ، لا كصورة معزولة هشة تسقط أنينها على الآخرين، عندئذ لا يبدو العمل الإبداعي مسحوباً إلى الخواء أو يخرج من أرض هشة، متلفعاً بكونية غياب سعى إلى خلاص ضائع ذي تصور قلق فرداني، فمن المهم أن يدخل الشعر منطقة حدود الوعي في قنواته الادائية، فلقد مللنا في الشعر الحديث ظاهرة التلذذات الرغائبية الضيقة التي تجتر رثاءات عائمة، وتتكيء على خلاصات تأخذ صيغة الشعر في الكلام، ولا تأخذ دور الشعر في التكثيف فثمة صور أو مفردات في البيت الشعري تدخل إلى أعماق الإنسان تنقلها ابداعات الشاعر إلى ذوات الآخرين لتنير شمعة مضيئة في مسيرة الإنسان العربي المتناقضة، ما يكفي لفتح القلب والفكر ومعانقة الواقع في تحمل صنعه من جديد، حيث تبرز خلال درجات وعيه المتفاوت ومواقفه قدرات النسيج الشعري على التوصيل والاستغلال والتحول.. فأي مدى حققه الديوان في هذا التصور؟ ثمة تساؤل ملح ركز تجربة الشاعر كلها في قضايا ومواقف إنسانية كبيرة ولها معان ودلالات عميقة في هذه النفس..
"محترقا بالشعر.. وبالنظرات الأولى.. أتسكع في مدن الكلمات.. وحيداً.. أفتح قلبي للريح.. تمر طيور النورس زاهية بسماوات بلادي.. أسألها: لم يرتعش القلب إذا مر على دكة محبوبته وتفوح الأزهار.. ولا يرتعش العاذل حين يمر ولا..!!".
هكذا يرصف عدنان الصائغ معانية وهكذا ينظم صوره الشعرية في شكلها الفني وتندرج بتغير الصور وربما تأخذ أبعاداً جديدة، ويبدو أن الشاعر تهمه التفاصيل ويهمه أيضا المساس بهذه التفاصيل اليومية في اغلب قصائد ديوانه، ويستعيد التفاصيل أحياناً من أجل استخدامها ولكنه يظهرها بالشكل اليومي المعتاد للناس الذين يحيون هذه التفاصيل من أجل أن يقول عبرها ما في القلب من حرائق وصولاً إلى النتائج، أنه بمعنى آخر اختيار لطريق التغيير لكنه تغيير من طبيعة خاصة. ومحاولة استنطاق الحاضر..
"قالت سيدتي: وبعينيها فرح الكلمات يضيء سماوات عذاباتي الزرقاء كقوس قزح.. اكتبْ شعراً عن عيني السوداوين تملَّ مفاتن روحي الحلوة.. نرجسةً.."
الشعر صناعة. وصناعة الشعر تصبح بهذا المعنى واستناداً إلى هذا المقياس صناعة تفور في أعماق الواقع بعيداً عن النرجسية أو أية معان أُخر تنطرح ضمن الاحساسات الشخصية. تقودني هذه الملاحظة إلى نتيجة بالغة الخطورة، فلقد أصبح الشكل الجديد هو تاريخ القصيدة، بمعنى آخر أن دراسة الأشكال وتطورها أصبح هو الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الحركة الجديدة وتقييمها، فهل عبر الشاعر الصائغ عن هذا كله؟ أظن أن الشاعر عدنان كتب أغلب قصائد ديوانه باندفاعة شكلية لم تكن دون مقدمات أي بمعنى آخر أوصلته إلى التأثر بالمحيط الذي يعيش فيه وقساوته ومرارته ووحدته ضمن رؤية عميقة إلى داخل نفسه هو وضمن صراع قاس بينه وبين واقعه.. ومن إيقاعات حسم خلالها عدنان الصائغ موقفه نهائيا من الحياة.. وهو أن يكتب الشعر لكي يعبر عن هذا الموقف..
"يا جسر الكوفة حدثني عن بستان اللوعة هل أزهر؟ عن آخر أشعار كزار حنتوش.. أقول لجسر الكوفة محترق قلبي بالشعر ومحترق دمعي بالعشق.."
ترى هنا الإيقاع الذي يتقاطع عن وحدة الشاعر واحتراقه داخل بنية القصيدة حيث يعيد الشاعر في أكثر من قصيدة الصورة بشكل تفصيلي داخلي.. فالصورة الشعرية بكل مزاياها تصبح أكثر من مجرد نقلة نوعية من الحياة ضمن مشاهد الذات الشعرية.. فالقصيدة الجديدة ضمن سياقها الحديث وهذا ما يدعو إليه الشعراء الشباب.. ابراهيم زيدان.. معد الجبوري.. عبد المطلب محمود.. سلام كاظم، كمال سبتي.. أمين جياد.. وغيرهم.. أداة تجربة وارض تجربة.. وانطلاقاً من هذه المعطيات استطاعت القصيدة أن تستجيب بأدواتها لمعطيات الواقع نفسه.. هكذا ترتفع أصوات عدنان الصائغ وأمين جياد، وغيرهم الكثير من محاولات عديدة لتأسيس قصيدة مبدعة ضمن معطيات الواقع الذي تعيشه امتنا العربية..
"الدرب طويل يا بنت حميد المرعب، يبدأ من نقطة حبر سقطت فوق قميصك، هذا المترف كالثلج، كزهرة قداح لم تتفتح ذات صباح تشريني في الصف."..
الأساس في هذه القصيدة هو تزاوج بين النثر والقانون الشعري.. لكن لا يبقى هنا الإيقاع خارج القصيدة أو حتى شكلها المعروف.. حينما يتحول إلى محدد داخلي في القصيدة، فبنت حميد المرعب كأية بنت أخرى يصفها الشاعر ويعطيها ملامح الفتاة الجميلة يحولها الشاعر من مفردة قصصية إلى مفردة شعرية بجهد متعب أيضاً ثم يقوم بإلباسها رداءً تفصيليا دقيق المعنى لتأخذ بالتالي جملة أخرى هي مجموعة من الصور والتداعيات والتضادات.. فوحدة القصيدة الايقاعية التي تنطلق من الصور تحافظ على وحدة الموضوع.. صوت الشاعر من جهة وصوت الواقع من جهة أخرى... لذلك تبقى قصيدة الصائغ بهذا المعنى أنها محاولة لإيصال تجربته ضمن صور الواقع إلى الناس داخل عالم متغير تتركب فيه الآراء والذات والرؤية..
(*) صحيفة "القادسية" – بغداد - 1986
|