تراجيديا عراقية مكانية
عبد الرزاق الربيعي
مع بداية تفتح وعينا على عالم يحد من حريتنا كان أكثر شيء يزعجنا تلك الاستمارات التي تنتقل في المدرسة من طالب الى آخر لملء فراغي ( الاسم الرباعي...... ) و( العنوان الدائم ....) ومعلومات أخرى أكثر ضجرا ..كنا نتوقف عندما نصل الى حقل ( العنوان الدائم....) لنتخيل سيارات سرية تنتزعنا من اسرَة نومنا في قلب الليل لتدخلنا في ليل طويل ..بلا مدارس ولا أمهات ولا حتى هواء ..فالعنوان - هناك حينذاك – يفضح أفكارك ولسانك الطويل في المجالس الخاصة العنوان في البطاقة الشخصية لا يجعلك تذهب للأبعد وإذا ذهبت فإلى أين؟ ومن ؟ ولماذا ؟ العنوان يحط من شانك كانسان يجعلك مثل دودة تعرف الطريق الى ثقبها في الأرض جيدا .. ماذا لو كتب احدهم رسالة ودس فيها كلاما يسيل له لعاب الشرطة وبعثه على عنوانك؟ لذلك كنا غالبا ما نبتر العنوان , لم نكن نملك الجرأة على كتابة عنوان مزيف! والحل الامثل الطارد للفزع ان نسقط رقما من العنوان أو رقمين ,وبذلك تشيع الطمأنينة في النفوس لحين وصول استمارة أخرى !! بعد الخروج من الوطن تحررنا من ( عقدة العنوان ) بل صرنا نعلق عناويننا على الواجهات انتظارا للمجهول ..لرسالة ..لصديق قادم من الوطن يحمل لنا شيئا من رائحته ..لطائر يحمل خبرا من الضفة الأخرى ... وكانت تمر المساءات ولا رسالة...ولا صديق ...ولا طائر.... صرنا نغير صناديق البريد مثلما يغير (بريخت )حذاء وطنيا ..بحذاء... وصارت الرسائل تخطيء التصويب ..أحيانا... فمثلا وصلتني أكثر من رسالة عندما كنت في صنعاء على عنواني في بغداد , ذلك لأنني عندما ملأت استمارة ( معجم البابطين ) وثبَت عنواني بصنعاء ضحك الأصدقاء اليمنيون وقالوا : وهل تظن انك ستقيم في اليمن ما أقام ( عسيب ) ؟ علما بان جبل ( عسيب ) لا يقع في اليمن ..عندها شطبت العنوان وكتبت عنواني ببغداد ...وعندما تاه صديقي الشاعر عدنان الصائغ بين دمشق وبيروت و مالمو انقطع التواصل بيننا فظن إنني غادرت صنعاء فوجه لي رسالة عبر ( إذاعة لندن ) أبكت الصخر ....! وفي مسقط وصلتني رسائل عديدة على عنواني في صنعاء لأنني ثبت في مجلة الحركة الشعرية عنواني فيها ...وذات ضياع وصلتني رسالة من صديقي القاص المبدع عبد الستار ناصر بعثها من بغداد وفي ختامها ملاحظة يطلب مني فيها مراسلته على عنوان الشاعر كاظم الحجاج في عمَان وما أن شرعت بالكتابة له على العنوان الذي أشار إليه فوجئت بوصول رسالة من الصديق الحجاج من البصرة فكتبت جوابي على رسالة الصديق عبد الستار على عنوانه في بغداد و إذا به يكتب لي من عمان! أصدقاء كثيرون انقطعت الرسائل بيننا ل(خطا في العنوان ) صرت أتابع أخبارهم عن طريق الصحف... وأخيرا عن طريق الانترنيت والبريد الالكتروني هذه التراجيديا المكانية هل عاشها شعب آخر غير الشعب العراقي ؟ تقول (أحلام مستغانمي ) على لسان بطل روايتها (فوضى الحواس ) " وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام " وبفضل المجنزرات وال...وال... هل يعلم بطل أحلام مستغانمي إن حتى أمواتنا لم يعد لهم عنوانا ثابتا هذه الأيام !!!!!!
موقع كتابات 28 آذار 2004
|