تشكّل تجربة الفنان والمخرج رسول الصغير علامة فارقة ضمن تجارب أقرانه ومجايليه من المخرجين العراقيين الشباب. وربما يعود سبب تفرّده إلى تفانيه وحبه اللامحدود للمسرح. فهو من المخرجين القلائل الذين يتقنون العمل بكل ما له علاقة بالمسرح، فهو يكتب النص المسرحي، ويعمل في الديكور والملابس، وينفّذ المؤثرات الصوتية والبصرية، ويمثل، ويعمل مساعداً للمخرج، ويزاول العملية الإخراجية بنفسه. بل يبيع التذاكر، ويوزّع الشاي إن استدعت الضرورة من أجل أن يتنفس هواء المسرح فقط على حد قوله. اشترك الفنان رسول الصغير في تمثيل عدد كبير من المسرحيات من بينها مسرحية ( كليو باترا ) إخراج سامي عبد الحميد، و( صندوق الرمل ) لسلام لعيبي، و ( خيط البريسم ) لفاضل خليل، و ( مكا أوب فاتر لاند ) للوسيانا آملسفورت، و ( الصف البابلي ) لساسكيا ميس، و ( التوازن القلق ) للوسيانا آملسفورت. كما عمل مساعد مخرج في ثماني مسرحيات أبرزها ( حلاق بغداد ) لفاضل خليل، و ( مرحباً أيتها الطمأنينة ) و ( مطر يمّه ) لعزيز خيّون، و ( قطط ) لكريم رشيد. أما على الصعيد الإخراجي فقد أخرج ست مسرحيات أبرزها ( سوناتا الركام ) التي حازت على الجائزة الأولى في مهرجان الشباب المسرحي في بغداد مناصفة مع المخرج غانم حميد، و ( الخادم الأخرس ) و ( تداعيات صالح بن زغيّر ) و( البهلوان ). وهو منهمك حالياً في الإعداد لإخراج عمله المسرحي الجديد ( ليلة زواج ) وباللغة الهولندية. وعلى هامش مهرجان المسرحي الهولندي الذي أُقيم في مدينة لاهاي والذي تمّ افتتاحه بمسرحية ( النقود القذرة ) لمخرجها الهولندي يان ياسما والذي يؤدي فيها رسول الصغير دور البطولة شبه المطلقة إلتقه ( الزمان ) وحاورته في تجربته الحياتية والإبداعية فكان هذا اللقاء:
بدأت حياتك الفنية ممثلاً على الرغم من أنك درست الإخراج المسرحي في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وتخرجت منها عام 1989. هل تعتقد أن التمثيل يشكّل الخطوات الأولى من رحلة الألف ميل الإخراجية؟ وهل لك أن تتحدث لنا عن علاقتك بالممثل والمخرج الكامنين في أعماقك؟
- حينما كنت طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة وقع اختيار أحد التلاميذ الذين يعدّون أطروحة التخرّج عليّ، إذ انتقاني من بين عدد كبير من الطلبة لأقوم بدور البطولة في مسرحية ( صندوق الرمل ) لأدورد ألبي. أن أكون ممثلاً أتلقى تعليمات من المخرج يعني أن أكون قريباً جداً من المخرج، وبالتالي أنا كنت أريد أن أصبح مخرجاً، وهذا يعني أن عليّ أن أعرف كل أسرار المهنة ولعل أبرزها هي كيفية إعداد الممثل، وما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الممثل الناجح، وما هي العوامل التي تدع الممثل أن يبدع في عمله وما إلى ذلك. أنا للأمانة لم يخطر ببالي أنني سوف أصبح ممثلاً ذات يوم. لقد اشتركت بعملين مسرحيين على مستوى الطلبة، لكن العمل الثالث جعلني أنتبه إلى نفسي كثيراً. هذا العمل كان مسرحية ( الرأس ) ليوجين يونسكو وقد أخرجها الفنان المبدع شفيق المهدي. وكان لي دور رئيسي فيه لفت انتباه أصدقائي الطلاب الذين أعربوا عن إعجابهم بأدائي، ومازلت أذكر بعض الجمل والتوصيفات التي قالوها بحقي ( كان حضورك آسراً. أنت تمثل بشكل جيد فقد كنت مندمجاً بالدور ومأخوذاً به ). المفارقة في ذلك الوقت أنني كنت في قرارة أريد أن أصبح مخرجاً وليس ممثلاً. فقد شعرت منذ وقت مبكر بأن لدي طاقة كبيرة على إدارة الممثلين، وأن ذهني مهيأ لقيادة الممثلين ودفعهم صوب أدوارهم بدقة عجيبة. وربما يعود منشأ هذا الاعتداد بنفسي مخرجاً أنني اشتغلت في كل مفاصل العمل المسرحي، ولم أترك جانباً إلا ومررت به. اشتغلت في الديكور والملابس وتنفيذ الصوت والموسيقى، مثلما اشتغلت ممثلاً ومساعد مخرج وكاتب نص وكاتب أغاني وبائع تذاكر وموزع شاي في داخل الفرقة القومية وفرقة المسرح الفني الحديث. كان يعجبني جداً أن أقف وراء العمل المسرحي وأراقب عن كثب المخرج وهو يمارس عمله الإخراجي لأعرف السر الذي يميّز المخرج عزيز خيّون عن الممثل رسول الصغير. وأتساءل في نفسي هل من الممكن أن أصبح في يوم من الأيام مخرجاً أقود هذا الكم الهائل من الممثلين النجوم الذين اقتحمت شهرتهم الصحف والمجلات وشاشات التلفزيون وخشبات المسارح ودور السينما والمقاهي والأرصفة والبيوت ؟ كان عندي رغبة ملحة في أن أعرف كل أسرار المسرح ولا أدع شاردة أو واردة تفوتني. بعد ذلك اكتشفت أن هذه العملية قد أفادتني كثيراً، ولكن مع ذلك فقد ظل الممثل في ذهني هو العنصر الأكثر أهمية في أي عمل مسرحي، لأنني مؤمن تماماً بأن المسرح ممكن أن يتخلى عن النص أو الديكور أو الإنارة أو الموسيقى ولكنه قطعاً لا يستطيع أن يتخلى عن الممثل. فالممثل في رأيي هو العمود الفقري لأي عمل مسرحي. من هنا نشأ اهتمامي بالممثل في داخلي بوصفي مخرجاً عارفاً بكل شروط وأسرار التمثيل. إن محور عملي الآن كمخرج هو كيف أنحت هذا الممثل وأتواصل معه لكي أقدمه بالصيغة المثلى للجمهور.
حصلت مسرحية ( سوناتا الركام ) من تأليف حسين علوان وإخراجك على جائزة الإخراج مناصفة مع المخرج غانم حميد، بينما حصل الممثل علي عبد الستار على جائزة أفضل ممثل. ما وقع الجائزة على رسول الصغير فناناً ومخرجاً؟
- كنت طالباً حينما قدّمت هذا العمل الناجح، ولكن من المناسب أن أذكر لك هذا الموقف الطريف. قبل هذا العمل قدّمت عملاً فاشلاً بامتياز وهو ( الاستلاب ). أذكر وقتها ذهبت إلى د. عوني كرومي وكنت طالباً في الصف الأول في الأكاديمية. فقلت له: دكتور أريد أن أخرج مسرحية ( الاستلاب ) فقال لي بالحرف الواحد: ( ابني إذا أنت بالصف الأول تريد تخرج مسرحية، فماذا ستفعل في الصف الرابع ؟ ) ومع ذلك فقد ترك لي مسألة حسم هذا القرار المجازف. ولا أطيل عليك فقد فشلت المسرحية فشلاً ذريعاً ووقعت في موقف لا أُحسد عليه، بحيث أن أحد أقرب أصدقائي هادي المهدي لم يجرؤ هو على حضور العرض فبعث بصديقته لأنه كان متخوفاً من النتيجة مسبقاً. وحينما لملمت انكساراتي، وتنكبت فشلي الذريع قل لي بحسرة لماذا فعلت هكذا؟ قلت له: لا أدري، إنه الجنون بالمسرح، وشغفي بأن أكون مخرجاً بأسرع وقت ممكن، ولم أطق الانتظار طويلاً، فأرجوك أن تكف عن تقريعي. قال لي: وماذا ستفعل لاحقاً؟ فقلت له بإصرار: لابد أن أعيد الثقة بأصدقائي الذين اعتقدوا أنني ممثل آسر ولي حضور طاغٍ على المسرح. وصادف دنو مهرجان مسرح الشباب الذي كان يشرف على تنظيمه الشاعر عبد الحميد الصائح. فقلت في سري لابد أن أثبت للآخرين أنني مخرج ناجح، وعليّ أن أتجاوز الأخطاء التي ارتكبتها في العمل السابق. كان النص هو ( سوناتا الركام ) الذي كتبه حسين علوان، وكان الجو بشكل عام ليس في صالحي لأنني أخرجت عملاً فاشلاً قبل فترة قصيرة. من هنا جاء التحدي الذي سكن في خلايا جسدي، وتلافيف عقلي. والمفارقة أن القائمين على العمل قد كلفوا شخصاً آخر بإخراجه لكن المصادفة أنه سيق للخدمة العسكرية لذلك لم يجدوا بديلاً سواي. لقد قرأت النص بعناية كبيرة، بل أن الكلمة الواحدة كنت أبني عليها أفكاراً كثيرة. كنت أنحت بالعمل نحتاً. وقد اخترت شخصاً لم يمثل مسبقاً وهو علي عبد الستار. كان مصمم ديكور ماهر. ومن الطريف أنه كان عنده شرط وهو أن يتدرب وإذا وجد نفسه غير مؤهل لتقديم العرض فإنه ينسحب حتى ولو قبل يوم واحد من العرض المسرحي. والمفارقة الأخرى أن هذا الطالب هو من خارج الأكاديمية، وأن العمل مقدّم باسم الأكاديمية ولك أن تتخيل حجم المجازفة. بدأنا في البروفات التي استمرت لمدة ثلاثة أشهر وكنت أركز على كل التفاصيل بدقة لا يمكن أن تتخيلها من أجل أن أنهض من الكبوة السابقة. دخلنا المهرجان وكانت المنافسة قوية جداً. إذ كان نص ( هذيان الذاكرة المر ) الذي كتبه الشاعر عدنان الصائغ وأخرجه غانم حميد مشتركاً في المهرجان، وهو نص جميل لا يمكن أن تفيه حقه مهما قلت عنه فقد كان بمنتهى الروعة وبمنتهى الجرأة أيضاً. في حين كان عملي رومانسياً شفافاً يتحدث عن فنان موسيقي ( عازف كمان ) عمره ثمانين سنة تُشل يده بينما يتحرق هو شوقاً لكي يواصل رغبته في العزف. حينما جاء يوم النتائج لا يمكن أن أصف اللحظات التي مررت بها حينما أخذت الجائزة فقد أعطتني شيئين: الأول لقد تيقنت من أن الجنون الذي كان موجوداً في رأسي هو جنون يقود إلى الإبداع لا محالة، والشيء الثاني دفعني لأن أحقق طموحاتي اللاحقة وأكون متميزاً بين أقراني. وربما أن التميز هو علة أغلب الناس، إذ كيف تصبح متميزاً بين أقرانك، وتلفت في النهاية انتباه أساتذتك. لأنني عندما أعمل بشيء وأحقق نتائج جيدة فهذا يعني أنني أسير في الطريق الصحيح، وهذا الأمر يعزز ثقتي بنفسي كثيراً، ويصقل موهبتي التي أراهن عليها. لذلك بدأت أقرأ بشكل مختلف. لقد كانت هذه الجائزة حداً فاصلاً في حياتي الفنية، وربما لولاها لم أكن أستمر على هذه الشاكلة.
عملتَ مساعد مخرج في مسرحيات ( حلاق بغداد ) لفاضل خليل، و ( مرحباً أيتها الطمأنينة ) و ( لو ) و ( مطر يمّه ) و ( ألف رحلة ورحلة ) إخراج عزيز خيّون، و ( قطط ) من إخراج كريم رشيد. ما الذي أفدته من تجربتك الإخراجية مع هؤلاء المخرجين؟ وماذا أكثرت من العمل مع المخرج عزيز خيّون بالذات. هل يتميّز بخصائص إخراجية لافتة للانتباه لا تتوفر عند أقرانه المخرجين؟
- كما قلت لك منذ البداية أنا أريد أن أعرف كل خفايا المسرح. فلا يهمني أن أعمل كومبارس. المهم أن أكون على مقربة من العمل المسرحي نفسه. أريد أن أعرف كيف يتعامل المخرج مع النص، ومع الممثلين، ومع سينوغرافيا العرض. فالموهبة، كما تعلم، لوحدها لا تكفي من دون الممارسة والتجربة واكتساب الخبرة. وللأمانة فأنا أعتبر نفسي من المحظوظين جداً لأنني عملت مع أغلب المخرجين العراقيين المبدعين. وبالمقابل كنت دؤوباً، وأبذل جهداً كبيراً من أجل أن أجذب انتباه الآخر كي يدعوني للعمل معه كمساعد مخرج. فعلى سبيل المثال عملت مع الأستاذ سامي عبد الحميد، قاسم محمد، شفيق المهدي، فاضل خليل، عزيز خيون، وآخرين كثيرين. أما السبب الذي دفعني للعمل مع المخرج عزيز خيّون هو إخلاصه وحبه وتفانيه للمسرح. فقد كنت أعتقد في السابق أنه لا يوجد شخص في العالم يحب المسرح مثلي، ولكنني عندما شاهدت عزيز خيّون اكتشفت أنه ينافسني في حب المسرح. فضلاً عن ذلك فإن عزيز خيّون يمنح الممثل فرصة كبيرة للتعبير عمّا يجول في أعماقه. وأنا على ما أظن أحاول جهد إمكاني أن أمنح الممثل فرصة كبيرة لكي يُظهر إمكانياته الداخلية وطاقاته المخبأة. الآن عندما نبدأ العمل في أول بروفة أقول للمثلين العاملين معي أعدكم وعداً بأنكم ستظهرون بمظهر جميل ولافت للانتباه. وهذا ما حصل في أغلب المسرحيات التي أخرجتها إذ ظهر الممثلون بطريقة جذابة ومثيرة للانتباه. وربما هناك سبب آخر لميلي للعمل مع عزيز خيّون وهو اشتراكنا معاً في النهل من الموروث الشعبي أو أن كلينا يتوفر على الحس الشعبي المرهف. بعد مسرحية سوناتا الركام ) التي أخذت عليها لجائزة كان عزيز خيّون من المشاهدين لهذه المسرحية، وكان عضواً في الفرقة القومية، وأنا لم يكن ببالي أن أصل إلى الفرقة القومية، ولكنني مع ذلك وصلت وكنت ما أزال طالباً في الصف الثاني. أي أن الوصول إلى الفرقة القومية لم يكن متاحاً للطلبة آنذاك. على أية حال، جاءني عزيز خيون وقال لي أريدك مساعداً معي فقلت له طيب. أعطاني النص وبدأنا نشتغل معاً. غير أنه كالعادة أعطاني مساحة كبيرة في التفكير بالمشاهد، وكنت كلما أبادر في إضافة مشهد أو حذف آخر لم يكن يمانع على الإطلاق. لم يكن خيون أنانياً ومعي أنا بالذات. وعلى ما أظن كان يتنبأ لي بمستقبل إخراجي جيد إذ كان يردد على سمعي بين آونة وأخرى ( أنت سوف تصبح مخرجاً جيداً في يوم من الأيام ). سمعت ذات يوم أن المخرج قاسم محمد يبحث عن ممثل في أحد الأدوار. لا أخفيك بذلت جهدا كبيراً من أجل الوصول إليه. فكل الممثلين المسرحيين كانوا يحلمون بالعمل مع قاسم محمد، لأن البروفة الواحدة مع قاسم محمد تعادل عشرة دروس من دروس الأكاديمية. وهذا الرجل ينحت الممثل نحتاً وهذا ما أريده أنا. عندما اشتغلت معه ( أنا لمن وضد من ) استفدت منه كثيراً. وبعد مدة من الزمن اشتغلت معه عملاً آخر وهو أشعار شاذل طاقة. كان من المفروض أن الفرصة الأولى التي أقتنصها في الفرقة القومية هي من خلال قاسم محمد لأنني مساعد مخرج في مسرحية ( كان يا ما كان ) ولكن السفر أعاقني من العمل معه فضاعت هذه الفرصة.
منذ إخراجك مسرحية ( الاستلاب ) عام 1986 وحتى الآن أخرجت سبع مسرحيات أبرزها ( الخادم الأخرس ) و ( المهرّج ينظر في المرآة ) و ( البهلوان ) في أي من هذه المسرحيات نستطيع أن نجد رسول الصغير مخرجاً. بكلمات أخرى أما زلت تحمل بصمات الآخرين الذين شكلوا معالم تجربتك الإخراجية، أم أنك الآن تعبّر عن رؤيتك الإخراجية الخالصة؟
- من الصعب جداً أن أتخلص من التأثيرات التي خلّفها المخرجون العراقيون على تجربتي الإخراجية. فمن المؤكد أن كل مخرج معجب بنموذج معيّن، وقد يكون هذا الإعجاب أو التأثر على مستوى اللاوعي أيضاً. فربما أن أكون قد قلّدت في واحدة من مسرحياتي مخرج عراقي معين دون أن أدري. ولكن الغريب أنني لم اسمع لحد الآن من كل أصدقائي الفنانين والنقاد والأدباء بأنني أشبه المخرج الفلاني، ولكنني في قرارة نفسي أعرف جيداً أن هناك تأثيراً بشكل ما من الأستاذ المخرج قاسم محمد ومن عزيز خيّون وشفيق المهدي. غير أن هذه التأثيرات قد زالت في أعمالي اللاحقة. فمثلاً يمكنني القول إن مسرحية ( تداعيات صالح بن زغيّر ) هي المسرحية الأولى الخالصة التي تخلوا من بصمات وتأثيرات المخرجين العراقيين الكبار والتي اشتركت بها في مهرجان اليمن لسببين: الأول، أنا كتبت النص عن فكرة للمرحوم هاني هاني. بالمناسبة لقد كتبت له أشعار مسرحية سابقة. وكان عندنا فكرة أن أكتب له نصاً باللهجة الشعبية الدارجة. السبب الثاني أنني كنت مُقيماً في اليمن، بينما قدّمت المسرحية باللهجة الشعبية العراقية، وهذا تحدٍ كبير. أنا ما زلت مصراً على أن العنصر الأكثر أهمية في المسرح هو الممثل، وليس أي شيء آخر. إذاً، كيف تقدّم مسرحية باللهجة الشعبية العراقية لمجتمع لا يفهم هذه اللهجة جيداً؟ ومع ذلك فقد جازفت وقدّمت هذه المسرحية ونالت حظاً كبيراً من النجاح. في هذه المسرحية بدأت ملامحي كمخرج تبرز أكثر من الأعمال السابقة. في مسرحية ( البهلوان ) التي كتبها الشاعر عبد الرزاق الربيعي توضحت ملامحي الإخراجية تماماً، بل أن البعض بات يلاحظ اعتمادي الكبير على السخرية في العمل المسرحي. والسخرية التي قصدها هنا هي سخرية من نوع راقٍ كأن تسخر من عطيل في عطيل نفسه، أو أن تسخر من هاملت في هاملت نفسه، ومن صالح بن زغيّر في صالح بن زغيّر نفسه. عندما قدّمت المسرحية في الدانمارك قال لي أحد المشاهدين: لقد آذيتنا كثيراً بعملك هذا. فقلت له: لماذا؟ قال: لأنك تجرّح بنا من دون سكاكين. وهذا هو المطلوب. لأننا لا يمكن أن نسكت بعد الذي حصل لنا. لابد أن نسخر لكي نلامس الحقيقة ونصل إليها. عملي المقبل ( ليلة زواج ) أعوّل عليه كثيراً. ومثلما أعادت إلى ( سوناتا الركام ) الثقة بنفسي وبأصدقائي المسرحيين أنتظر من مسرحية ( ليلة زواج ) التي ستقدم بالهولندية أن تحفر اسمي على جدار المشهد المسرحي الهولندي. وبالذات الفرقة المسرحية التي أعمل معها. أتمنى في الأقل أن تكون ملامحي محددة وواضحة ومعروفة لدى العراقيين والهولنديين هذه المرة.
شاركت في مهرجان القاهرة التجريبي عام 1988 من خلال مسرحية ( ألف رحلة ورحلة )، كما شاركت في أعمال أخرى في اليمن. ما هي حصيلة جولاتك في البلدان العربية؟ هل نستطيع القول أن هناك نوعاً من التلاقح الثقافي قد حصل بينك وبين أقرانك الممثلين والمخرجين العرب؟
- من أهم الأشياء التي أفادتني في مهرجان القاهرة التجريبي هي اللقاءات بالممثلين المصريين الكبار. فنحن كنا شباباً في المرحلة الثانية من الأكاديمية. وقد قدمنا عملاً جميلاً للغاية نال الجائزة الأولى من بين ( 54 ) عملاً عالمياً. ما أثار انتباهي في تلك الفترة هو أننا كنا نمشي في شوارع القاهرة ونرى صور الفنانين المصريين في كل مكان، لكن في يوم العرض حضر نخبة من الفنانين المشهورين أمثال نور الشريف، محمود ياسين، عائدة عبد العزيز. بالمناسبة عائدة عبد العزيز هي من أهم الفنانات المسرحيات في مصر، وقد درست المسرح في إيطاليا، ناهيك عن موهبتها الفنية التي يشهد لها الجميع. هؤلاء صعدوا على المسرح لكي يهنؤننا جميعاً . أما عائدة عبد العزيز فقد همست في أذني الجملة التالية ( إنتو إديتولنا درس في المسرح ). أنا كطالب مسرح شعرت بفرح غامر لا حدود له. أنا أعرف حجمي وموهبتي وأدرك الجهد الكبير الذي أبذله يومياً من أجل صقل إمكانيتي المسرحية، ولكن عندما تأتي عائدة عبد العزيز بكل ثقلها الفني وتقول هذا الكلام فلابد أن اشعر بشيء من الغرور والنشوة. في هذه المسرحية كان دوري قصيراً جداً لكن التهاني التي تلقيتها بعد انتهاء العرض أذهلتني حقيقة الأمر الذي جعلني أعيد النظر بحساباتي من جديد. صحيح أن النص قد كتبه الأستاذ فلاح شاكر، وهو من كتاب المسرح المبدعين في العراق، لكنه كان يقبل بالاقتراحات والملاحظات والتعديلات وكنت أشعر بنوع من الزهو عندما يصفق الجمهور عند جملة أو عبارة أضفيتها أنا على سبيل المثال. في سري كنت أفرح عندما يقول المخرج أن اللمسة الفلانية غير غيّرت من سياق النص وغالباً ما تكون هذه اللمسات هي من عندياتي. في اليمن الأمر مختلف جداً فأنا ذهبت إلى هناك مخرجاً ولدي رصيد من الأعمال المسرحية تمثيلاً وإخراجاً، مثلما لدي رصيد من الجوائز سواء التي نلتها أنا أو نالتها مسرحياتي، ولكنني مع ذلك انتظرت ثلاث سنوات لكي أبدأ بعمل جديد هناك. قدّمت أول الأمر مسرحية ( المهرج ينظر في المرآة ) وحصل على جائزة الإنتاج كأفضل عمل مسرحي متكامل. إذ قدّمت سبع بنات بينما كان العمل شخصية واحدة. وفي اليمن اشتراك سبع بنات في مسرحية أشبه بالخرافة.كان همي في اليمن أن أفهم عادات وتقاليد الشعب اليمني قبل أن أقدّم له أي عمل مسرحي. فلغة التخاطب ضرورية من جل أن أتواصل معهم. وبعد ثلاث سنوات اخترت نصاً شعبياً أدهش أغلب أصدقائي المحيطين بي، إذ قالوا لي أنك تغامر في عرض هذا النص باللهجة الشعبية العراقية قلت: كلا، أريد أن أوصل رسالتي للشعب اليمني. قدمت المسرحية وهي ( تداعيات صالح بن زغير ) وقد نجحت نجاحاً مذهلاً. إن الاحتكاك بممثلين ومخرجين من جنسيات مختلفة أمر مهم للغاية لأنه يجعلك تفكر بطريقة مختلفة، تفيد وتستفيد، في آن معاً.
أخرجت مسرحية ( البهلوان ) وشاركت فيها ممثلاً. هل قدمت هذه المسرحية كنوع من التواصل مع الجمهور العراقي والعربي في هولندا، أم أنك كنت تجد في ثيمتها الحساسة ضرورة تمهيد الطريق للولوج إلى المجتمع الهولندي حتى وإن جاء هذا التمهيد من خلال الملخص الذي يحمله بروشور المسرحية؟
- هذا هو بالضبط ما كنت أقصده، فهدفي أن أصل للمعنيين بالفن الهولندي. فنحن عندنا أشياء كثيرة يتوجب علينا أن نوصلها إلى الآخر حتى وإن كان باللغة العربية. فاللغة في المسرح هي عنصر من عناصر كثيرة. ولا أعتقد أن هناك إنساناً يشاهد عملاً مسرحياً مصنوعاً بشكل جيد ولا يستسيغه أو يتأثر به. عندما قدمت مسرحية ( البهلوان ) أول مرة في أكاديمية الفنون الجميلة في مدينة كامبن قدمتها باللغة العربية. كنت أريد أن أقول للجمهور الهولندي أننا أصحاب ثقافة وحضارة وفنون متعددة. وبالرغم من العمل المسرحي قد قدّم باللغة العربية غلا أن المشاهدين فهموا العمل، وجاء البعض يعرب عن إعجابه فأسأله: هل فهمت العمل؟ فيرد عليّ بالإيجاب. ثم تساءلت مع نفسي: كم من الأفلام والمسرحيات التي شاهدتها واندمجت معها من دون أن أفهم اللغة؟
في هولندا اهتمت بك المخرجة الهولندية لوسيانا آملسفورت وزجّتك في وقت مبكر في أكثر من عمل مسرحي مثل ( مكا أوب فاتر لاند ) و ( كيرست أند كو ) و ( التوازن القلق ). ما الذي جذبك إليها، هل هي قدراتك التمثيلية المعبّرة أم رؤيتك على الصعيدين الإخراجي والفني أم أن هناك شيئاً آخر؟
- سوف أقتبس لك مقطعاً من مقابلة أجرتها أحد الصحف مع المخرجة آملسفورت إذ سألها الصحفي السؤال نفسه تقريباً فأجابت: جاءني هذا الشاب وقال أنه يبحث عن عمل، ولكنه لا يتكلم اللغة الهولندية. فقلت له: كيف تريد أن تعمل وأنت لا تتقن اللغة الهولندية؟ فقال: ألا تشربون القهوة في أثناء البروفات داخل المسرح؟ فقلت له: بلا، قال أنا أصنع لكم القهوة من أجل أن أتنفس هواء المسرح فقط. فقلت في نفسي هذا واحد من اثنين: إما أن يكون مجنوناً أو أنه فنان حقيقي يعشق المسرح ولا يستطيع أن يكون بعيداً عنه. قلت له: ماذا تستطيع أن تريني من قدراتك الآن؟ بدأ يؤدي بعض الحركات ويتشقلب ويصرخ ويتلوى فأدركت أن هذا الشاب هو فنان كبير. فمنذ تلك اللحظة قررت أن يشتغل معي. قالت لوسيانا بعد سنة صار يساعدني في إيصال أفكاري للمثلين الآخرين، وبعد سنتين أصبح ركيزة أساسية من ركائز الفرقة المسرحية، وبعد الآن لن أتخلى عنه في أي عمل قادم. هذه المرأة هي فنانة واعية جداً. وعندما زجّتني في ول عمل وهو ( مكا أوب فاتر لاند ) المأخوذ عن مسرحية ( عبور المحيط ) لبرشت كانت تراقبني. أتدري ماذا قالت لي؟ قالت لي بالحرف الواحد: ( أنت تمثل وسط مجموعة الفنانين وفيك شيء مميز عنهم جميعاً، لا أدري ما هو؟ فكنت قول لها ( أنه الحس يا لوسيانا ). نعم، نحن عندنا الحس، وهم عندهم التكنيك. في المسرحية التي شاهدتها أنت اليوم ( النقود القذرة ) ثمة عبارة ( يا تمرتي الحلوة ) هذه العبارة غير موجودة في اللغة الهولندية، لكنني أدخلتها في متن النص فحركته قليلاً. نصحتني لوسيانا أن أتعلم اللغة الهولندية بأسرع وقت ممكن وبعد عملين أعطتني البطولة المطلقة في مسرحية ( التوازن القلق ) لأدوارد ألبي. كما حصلت على بطولة شبه مطلقة في مسرحية ( النقود القذرة ). ولدي مشاريع مستقبلية مشتركة معها، وهي تردد دائماً أنني متلهفة للعمل معك. لوسيانا وقفت معي على الصعيد الفني والثقافي واستمعت لي كثيراً، فمهما أتحدث عنها لا أفِها حقها. فخلف هذه المرأة تكمن فنانة كبيرة تحب الفن وتقدره. وأعتقد أنني جئت إلى المكان الصحيح، فقد قدمتني للهولنديين بشكل جميل، وأعطتني أدواراً مهمة. أتمنى أن أرد لها هذا الجميل.
لماذا عملت مع المخرجة الهولندية ساسكيا ميس عملاً واحداً وهو ( الصف البابلي ) ثم توقفت؟ هل هناك فرصة للعمل معها ممثلاً أو مساعداً للمخرج أو ربما إخراج مشترك؟ كيف تقيّم تجربة مسرحية ( الصف البابلي ) التي اشتركت بها مع فرقة مسرحية هولندية؟
- إن المخرجة ساسكيا ميس هي بالأساس ممثلة مهمة جداً في المسرح الهولندي ( Appel theater ). وهي الممثلة الوحيدة التي تجيد الأدوار الشكسبيرية بشكل خرافي. أن أي نص يقدم لشكسبير على المسارح الهولندية لابد أن تكون ساسكيا ميس موجودة. وهي كمخرجة لها مساحتها المعروفة في المسرح الهولندي أيضاً. إن عملي معها جاء بالمصادفة فقد شاهدتني وأنا أمثل في مسرحية ( كيرست أن كو ) وبعد انتهاء العرض طلبت مني أن نعمل موعداً معها. ذهبت إلى الموعد واتفقنا على العمل معاً في مسرحية ( الصف البابلي ). الحقيقة هناك مغريات كثيرة للعمل مع أكثر من مخرج. للأمانة أن لوسيانا مختلفة عن ميس كثيراً. فكل تشتغل في حقلها الخاص. الغريب أنني اشتغلت مع ميس بصحبة ستة من ممثلي التلفزيون الهولندي المعروفين. فعندما تظهر صورتي بين هؤلاء النجوم في الصحف فلابد أن يتساءل القارئ عن أهمية هذا الوجه الجديد. أنت كما تعرف جيداً أن لدي الرغبة في أكون مخرجاً لهذا أخبرتهما بذلك، وها أنا على أبواب إخراج عملي الجديد ( ليلة زواج ) في الأيام القليلة القادمة.
إلى أي مدى تساهم اللغة الهولندية في إعاقة تقدمك المسرحي تألقك ضمن المشهد المسرحي الهولندي؟
- للأمانة هناك صعوبة كبيرة في اللغة. والممثل هو الذي يحس بها أكثر من غيره لأن يريد من خلالها استلال المشاعر. عن وقع الكلمة في اللغة العربية يختلف كثيراً عن وقعها في اللغة الهولندية. فعندما يقول الفنان الهولندي لحبيبته مفردة أحبك فإنها تختلف بالتأكيد عن الكلمة ذاتها التي يقولها الفنان العربي لحبيبته. نحن عندنا دفق كبير وحس عالٍ في الكلمات. كما نهتم نحن بالبناء الداخلي للشخصية، في حين أنهم يهتمون بالتكنيك. التمثيل عندنا كشرقيين فيه مشاعر كبيرة. وعندما تضع هذه المشاعر في قالب هندي أعتقد أنها تفشل. وللحقيقة أقول أنا مهتم بالجانبين الآن. فعندما ننتهي من عمل مسرحي أقول للمثل الهولندي لقد كنت رائعاً. فيرد عليّ: لا أنت كنت أروع مني، لأنك كنت تمثل بطريقة مدهشة. أنا في حقيقة الأمر أشتغل بأحاسيسي فضلاً عما تعلمته خلال هذه الخمس سنوات بضمنها فترة دراستي في الأكاديمية الهولندية وما تعلمته من تقنيات حديثة. أعتقد أن سر تألقي يكمن في المزاوجة بين الأحاسيس والتقنيات، ولذلك فأنا مطلوب دائماً من قبل المسرح الهولندي.
لم نلمس حتى الآن في أعمالك المسرحية، عربياً وهولندياً، آثاراً واضحة المعالم لمسرح الصورة والجسد والحركة. ما سر انغماسك في المسرح التقليدي الذي لا يروم تجاوز الواقع السائد والمألوف في المسرح بعامة؟
- لكل وجهة نظره الخاصة. إن مسرح الصورة والجسد والحركة كلها خرجت من معطف المسرح ذاته. أنا لا أنتمي إلى المسرح التقليدي بأي حال من الأحوال. أعتقد من أولى مواصفات العرض المسرحي أن يكون عرضاً ممتعاً، جذاباً، يشد الجمهور بغض النظر عن الكيفية التي يقدم بها هذا المسرح. فالمتعة عنصر مهم في المسرحية. ومن خصوصياتي كمخرج هو أن أقدم الممثل بطريقة ساحرة فيها من الألق الشيء الكثير. أنا أهتم بالممثل والنص، وقد لاحظت أنت عدم اهتمامي بالديكور مثلاً أو المكملات المسرحية الأخرى. في مسرحياتي هناك صور وأشكال جميلة، وربما تتذكر مشهد الاغتصاب في مسرحية ( البهلوان ) هذا المشهد هو مسرح صورة اكثر منه مسرحاً تقليدياً. أنا لا اشتغل مسرح صورة كما يشتغل صلاح القصب مثلاً. وهذا ليس معناه أن صلاح القصب على خطأ. كلا، أنا الذي يهمني هو أن أكثف هذه الصورة ضمن سياق العمل المنسجم منذ البداية وحتى النهاية. أحد المشاهدين قال لي أن مسرحية ( البهلوان ) كانت قصيرة. فقلت له: كلا، أن مدة العرض كانت ساعة وخمس دقائق. قال: معقول. هذا هو المهم بالنسبة لي أن يستمتع المشاهد بالعرض ولا يشعر بالملل. ومع ذلك فأنا أتعلم دائماً. وما لم أستطع أن أحققه في هذا العمل ربما سأحققه في العمل القادم.
أنا لا أقصد حينما يكون الممثل أو المخرج كلاسيكياً فهذا معناه أنه مخرج سيئ كلا، إنما أدعوك للإفادة من بيتر بروك وغروتوفسكي وغيرهما من الذين يؤكدون على أن الجسد البشري فيه من المراكز الحسية والعضلات والخواص النادرة بحيث تجعله يستغني عن الكلام من خلال الإفادة من هذه العضلات والمراكز الحسية الناطقة. ألا تفكر أن تستفيد من أجساد الممثلين وتوظف طاقاتهم الجسمانية؟
- بالتأكيد، أنا أحاول الاستفادة من هذا الجانب، ولكن دعني أتحدث عن حازم كمال الدين فهو مخرج موجود في الساحة الأوربية منذ زمن ليس بالقصير، وهو يشتغل على الجسد والحركة بطريقة مختلفة. وهي بالمناسبة طريقة صحيحة ومدهشة جداً، ولكن أنا عندي وجهة نظر مختلفة. فأنا عندما أشتغل على الجسد والعضلة لا أهمل الجوانب الأخرى. ربما يأتي يوم سوف استخدم فيه هذا المنحى في المسرح ولكن شرط ألا أهمل الجوانب الأخرى في المسرح. وإذا ركزت فقط على الجسد والحركة فلن يكون مسرح بمعنى الكلمة. المسرح معروف للجميع. أنا أهتم بالطقس المسرحي وعندما يخرج المشاهد من العرض المسرحي يقول لقد رأيت عرضاً مسرحياً وليس شيئاً آخر. المكان ليس مهماً، فأنا ممكن أن أعرض في أي مكان، في زاوية ما، أو في صالة أنيقة، أو فوق سطح بناية في الهواء الطلق، أو في صحراء جرداء، أو فوق سطح البحر. المهم أن أخلق الطقس المسرحي الذي يجعل من الجمهور عنصراً فاعلاً في العرض. هذا ما يشتغل عليه غروتوفسكي، وأنا أزعم أنني أشتغل على الممثل وأضع الجمهور في قلب اهتماماتي.
فكرة مسرحية ( ليلة زواج ) هي فكرتك أنت وقد كتبتها فيرا بليّيفا، ثم أعطيتها للكاتب المسرحي المحترف تون تيو سميث فأعاد كتابتها. لماذا لم تكتبها أنت؟ وهل تؤمن بضرورة كتابتها من قبل كاتب محترف آخذين بنظر الاعتبار أنك كتبت الكثير من أغاني المسرحيات، كما كتبت للتلفزيون وللعديد من المطربين العراقيين؟
- قال لي تون تيو سميث ( أنك تلعب لعبة خطيرة جداً ). كان من الممكن أن أكتب النص باللغة العربية وترجمه عن طريق شخص آخر إلى اللغة الهولندية. أو أن أكتبه باللغة الهولندية على الرغم من ركاكة لغتي الهولندية وعدم استقامتها لحد الآن. ولكنني قلت أنني أعيش في بلد أوربي، وهذا البلد له تاريخه وقيمه وأفكاره، وأنا سوف أقدّم هذا العمل إلى مجتمع يتكلم الهولندية. فمن المناسب أن يكتب هذا النص كاتب هولندي لكي تتجسد الأفكار بروح هولندية. الكاتبة فيرا كتبت النص بطريقة جميلة، ومع ذلك فقد أعطيت النص ثانية لتون تيو فكتبه بطريقة أخرى، إذ أعاد صياغة الكثير من الجمل، وحذف بعضها، وأضاف جملاً وأفكاراً جديدة. وحينما انتهى منه بعثته إلى الكاتبة الأولى وفرحت بالتغييرات التي طرأت على النص. لقد اخترت ممثلة هولندية، وممثل كردي عراقي يتقن الهولندية، وأنا مخرج عراقي عربي أتكلم الهولندية. إذاً سوف أضع المتلقي أمام ثلاث ثقافات مختلفة فتخيل كيف سيخرج النص؟ هذا هو السبب الذي دعا تون تيو لأن يقول لي أنت تلعب لعبة خطيرة. المهم هو شكل العرض المسرحي الذي سوف أقدمه. نعم أنها لعبة خطيرة ولكنني موقن من أنني سوف أنجح فيها. هذا ما يقوله إحساسي الداخلي عن العمل. ومن خلال هذا العمل سوف تتحدد ملامحي كمخرج هولندي وليس عراقياً هذه المرة. لأنني كمخرج عراقي قدمت بما فيه الكفاية في العراق واليمن. أنا أعيش في هولندا وأريد أن أطرح نفسي هولندياً بين الهولنديين أنفسهم. ولابد أن اشترك في مهرجان المسرح الهولندي القادم بعمل باللغة الهولندية. صحيح أنها مغامرة صعبة، ولكنني كما تعرف مغرم بالمغامرات. سأمضي في هذه اللعبة وسننتظر النتائج لاحقاً.
بوصفك مخرجاً ذا تجربة طويلة نسبياً. هل صادفتك نصوصاً مكتوبة بطريقة بصرية تختصر عليك إعادة كتابة النص إخراجياً؟
- أنا أكتب هذا النص البصري الذي تتحدث عنه، وقد قدمته إلى الفنان أحمد الشرجي فقال: أنت فعلت كل شيء في هذا النص فماذا أفعل أنا؟ حينما تقرأ نصاً معيناً تأخذك مجموعة أفكار أو قيم تتحرك في متن النص. كيف تفجّر هذه الأفكار والقيم وتحولها إلى واقع بصري، أي إلى شكل و صورة. المشهد الأخير في مسرحية ( النقود القذرة ) أليس فيه مجموعة من الصور؟ أن المخرج قبلني لسبب بسيط وهو أن الخمس دقائق الأخيرة منحت العمل المسرحية حيوية لا حدود لها. هذا المشهد لم يكن يحتاج إلى لغة أو حوار. إن الصورة كانت تتحدث. في مسرحية ( الخادم الأخرس ) لهارولد بنتر، هذا الكاتب العبقري الذي قال أشياء كثيرة على لسان الشخصيتين. كلما أقرأ النص أتساءل ما الذي يمكن أن أفعله لمثل هذا النص وأنا طالب في السنة الرابعة في الأكاديمية؟ دمرت النص وخلقت منه عشر شخصيات أخرى، أي أصبح عدد الشخصيات ( 12 ) شخصية. كان تعليق سامي عبد الحميد في الصميم إذ قال: (أحلى ما فيك أنك نسيتني نص هارولد بنتر ) كانت هناك شخصيتان في النص الأصلي، بينما شاهد الحضور ( 12 ) شخصية. وهنا رأى المشاهد ما لم يكن يتوقعه على الإطلاق. النص الذي كتبه حسين علوان ( سوناتا الركام ) هو نص صعب وفيه كلام كثير، ولكنني قدمته بعشرين دقيقة فقط. أي أنني قدمت شيئاً مختلفاً عما هو موجود على الورق. وهذا ليس طعناً بالنص، وإنما قدمت النص بطريقة بصرية.
قال عنك الفنان خليل شوقي وبحضوري في مدينة خروننجن ( أنك فنان جيد فحافظ على موهبتك ). كيف تنظر إلى هذا التقييم الذي ينطوي على حميمية عالية آخذين بنظر الاعتبار أن خليل شوقي يتحفظ كثيراً في إطلاق صفة الفنان والموهوب دائماً؟
- أستاذ خليل شوقي لا تكفي أي كلمة من الكلمات لكي تفِه حقه فهو إنسان راقٍ جداً . أنه يعرفني منذ زمن مبكر عندما كنت طالباً. وهو مراقب حساس للمسرح العراقي كله. ومثلما قلت أنت أنه متحفظ جداً بآرائه. هو عنده آراء كثيرة ولكنه متحفظ في إطلاقها، ويحتفظ بها لنفسه. أنا جئت إلى فرقة المسرح الفني الحديث وأنا طالب في الصف الأول في الأكاديمية. كنا نشتغل في مسرحية ( الباب القديم ). وكنا نتحاور ونتناقش في أمور كثيرة حول طرق الإخراج وتدريب الممثل وعمق النص المسرحي وكان يقول لي دائماً أن حسك جميل وأن ذائقتك جيدة فحاول أن تقرأ كثيراً لتصقل موهبتك. ثم سافر هو إلى هولندا بينما سافرت أنا إلى اليمن، ثم شاءت المصادفات أن نلتقي هولندا. وعندما قدمت أول عمل مسرحي في هولندا وهو ( البهلوان ) لم أكن أخشى أي شخص سوى خليل شوقي لسبب بسيط جداً وهو أنه يعرفني عندما كنت في العراق، ويعرف إمكانيتي الفنية، ويعوّل عليها. لهذا لم أكن أريد أن أخذله، فقد شجعني، وأخذ بيدي، ونصحني كثيراً، وقدمني بشكل جيد للفنانين الآخرين. عندما انتهى العرض وجاء خليل شوقي لكي يهنؤني عليّ حدقت إلى عينيه فعرفت حجم رضاه. احتضنني وقال ( حلو، حلو، حلو ) أعرف أنه يحبني ويتمنى لي مثل هذه المكانة الممتازة، وبالتالي لا استغرب منه هذا الكلام. إنه باختصار مدرسة فنية.
هل لك أن تتحدث لنا عن دورك مسرحية ( النقود القذرة ) كونك تلعب دوراً مهماً يشد الأحداث؟ ما هي انطباعاتك عن فكرة العمل، وطريقة إخراجه، وما هي الأسباب التي دفعت يان ياسما لأن يسند إليك هذا الدور؟
- في مسرحية ( التوازن القلق ) لأدوارد ألبي كنت أؤدي دورا مهماً مناصفة مع ممثل آخر هو روجير، وصادف أن يكون يان حاضراً في العرض. بعد انتهاء العرض في عام 2000 قال لي أنت سوف تؤدي معي دور البطولة المطلقة في عام 2002 فماذا تريد أكثر من ذلك؟ حقيقة لم أكن ألتقِ بهذا المخرج المبدع من قبل. قلت له لا بأس سوف اقرأ النص وأعطيك النتيجة. وللعلم فأن يان ياسما هو من أهم الممثلين الهولنديين إذ بلغ رصيده أكثر من ( 100 ) حلقة تلفزيونية. وهو من أهم المخرجين التجريبيين الذين يتمتعون بسمعة طيبة وحجم كبير. النص مكتوب بشكل جيد، وفيه قيمة فكرية مهمة. إذ يتناول حياة المهاجرين الذين جاءوا إلى هولندا. وهم غرباء لا يعرفون اللغة، ولم يكتشفوا بعد عمق الحياة الهولندية. ولكن مع مرور الأيام نشأت لديهم علاقات مع الهولنديين، وبدأوا من خلالها يكتشفون الحياة الهولندية شيئاً فشيئاً. المسرحية توحي بفكرة أن المهاجرين غير الشرعيين هم عرضة دائمة للاستغلال من قبل المواطن الهولندي، وهنا تحديداً من قبل صاحب البنسيون. فهم يعملون ليل نهار بلا أجر في هذا البنسيون مقابل تناول وجبات الطعام فقط. النص يطرح أسئلة كثيرة منها: ألا يحق للمهاجر غير الشرعي أن يحلم مثلاً؟ أو أن يعيش بكرامة؟ وإذا فقدت كرامتك هنا فلماذا إذاً تركت بلدك؟ أليس من أجل الحفاظ على الكرامة وعزة النفس؟ النص يقول إن هذا المهاجر يعيش في وسط المجتمع الهولندي وعلى الهولنديين أن يحترموا تاريخه وحياته الشخصية. هذه الأحداث قريبة إلى نفسي. وهذا الشاب الذي فجّر المكان كله كان مستعداً لأن يفعل أي شيء من أجل حبيبته. أنا على الصعيد الشخصي هكذا أحاول أن اقدم أي شيء من أجل من أحب مقابل أن تشعر هذه الحبيبة بحبي لها. عندما قرأت أسماء الممثلين المشاركين دهشت فهم أسماء كبيرة حقاً كنت أحلم أن أمثل معها دي خراخ، آنا ، آرنو، مجيد شكري الفنان المغربي المقيم في هولندا منذ ( 22 ) عاماً. ثم أن مهرجان المسرح الهولندي سوف يُفتتح بهذه المسرحية. أنا على الصعيد الشخصي أحاول التقرب من هؤلاء الفنانين حتى يفهموني وأفهمهم لكي أخلق لغة مشتركة. فأنا كمخرج أسعى لأن أؤسس سمعة جيدة ورصينة بحيث عندما أطلب ممثلاً هولندياً يأتيني في الحال من دون تردد. أريك هي ممثلة مهمة ومخرجة جيدة، وتدرس في أكاديمية الفنون الجميلة لكنها وافقت أن تعمل معي ممثلة. عودة على فكرة النص. هذا النص يحكي عن مهاجرين غير شرعيين، يعبران الحدود بطريقة غير قانونية، ويدخلان إلى مدينة دنهاخ الهولندية بوصفها العاصمة السياسية لهولندا أو صانعة القرار السياسي. فجأة يجدان أنفسهما عند صاحب بنسيون مستغِل. يزجهما في العمل مقابل الأكل والشرب فقط، ويتستر عليهما على أمل أن يحصلا على الإقامة الشرعية لاحقاً. بعض الناس في المسرحية يلوذون بالسحر والشعوذة نتيجة لإفلاسهم الفكري. صاحب البنسيون لديه نقود كثيرة لكن العملة تغيّرت من ( جلدر ) إلى ( إيرو ) فأصبحت لديه مشكلة وهي كيف سيتخلص من النقود. الشاب سعيد الذي هو أنا وعشيق بنت صاحب البنسيون يقرر أن يفجر المكان كي يرضى عنه مالك البنسيون الذي يعرف أن سعيداً يحب ابنته. لقد مالك البنسيون هذا الجانب ودفع سعيد لكي يفجر المكان، ولكن النتيجة كانت مفجعة إذ مات سعيد مع موت العملة الساقطة. النص يرد أن يقول أن المهاجرين هم مثل العملة الساقطة
لقد أخذت فرصتك في العمل مع مخرجين هولنديين وعراقيين جيدين. أليس كذلك؟
- نعم، هذا صحيح. ففي هولندا عملت مع ساسكيا ميس ولوسيانا آملسفورت. وها أنا أعمل مع يان ياسما. هذا الرجل مجرب كبير. فمنذ بداية البروفات وهو منهمك في البحث عن شكل مسرحي جديد. لا يهم هذا سواء أكان كلاسيكيا أو حداثياً. المهم أن المشاهد حينما يخرج يشعر أن وراء هذا العمل مخرجاً جيداً لا يركن إلى السكون والاسترخاء. يان ياسما يقود في هذا العمل أكثر من عشرين شخصية على خشبة المسرح في عمل تجاوزت مدته الساعتين، فيه أحداث كثيرة، ومواقف طريف، وموسيقى ورقص، وحياة اجتماعية نابضة. لقد تعلمت كثيراً من هذه التجربة التي قدّمتني خطوة إلى الأمام واختصرت لي اكثر من خمس سنوات. إن قبول هذا دور البطولة هو مجازفة كبيرة في أن تكون بين ( 20 ) ممثلاً معروفاً. في العراق أخذت فرصتي الكبيرة كما قلت. فقد عملت مع أغلب المخرجين العراقيين اللامعين الذين يمثلون تيارات مسرحية مختلفة. المخرج الوحيد الذي لم أعمل معه هو جواد الأسدي، ولكنني مع ذلك إلتقيته في عمان، وحاورته طويلاً، وشاهدت بعض أعماله المسرحية مثل ( العلم ) و ( المجنزرة ) و ( مكبث ).
هل لك أن تتحدث عن البدايات الفنية. كيف تشكّلت، ومن هم الناس الذين آزروك ومهّدوا لك الطريق للولوج إلى فضاءات المسرح الجميلة؟
- ربما يكون اهتمامي المبكر بالقراءة هو الذي دفعني إلى اكتشاف عوالم الأدب والفن تحديداً. كما لعب الوالد دوراً كبيراً في إذكاء الرغبة في قراءة القصص والروايات الروسية التي فتحت شهيتي للإبداع. كما أن عائلتنا كانت تحتفي بوجود فنان مسرحي هو جبار الصغير الذي لمع اسمه في الوسط الفني. ومن الطريف أن أذكر أنني في الصف الخامس الابتدائي لا أدري كيف أصبحت مخرجاً لأحد المسرحيات التي أنتجتها المدرسة في ذلك الوقت؟ ولماذا وقع عليّ الاختيار من دون التلاميذ الآخرين؟ عندما كبرت قليلاً حاولت أن أكتب الشعر وأكون شاعراً. كما حاولت أن أكون رساماً، لكنني وجدت نفسي في المسرح حقيقة. فالمسرح بالنسبة لي هو حياة افتراضية جميلة. عندما أنهيت المرحلة المتوسطة قدّمت أوراقي لمعهد الفنون الجميلة، لكنني لم أُقبل ربما بسبب انتماء والدي السياسي إلى حزب يساري. كنت خلال هذه الفترة أتابع النشاطات المسرحية. فقبل دخولي لأكاديمية الفنون الجميلة- قسم المسرح شاهدت مسرحية ( النخلة والجيران ) وكان عمري آنذاك سبع سنوات. ثم شاهدت مسرحية ( الخليقة البابلية ) لصلاح القصب وكان عمري ثلاث عشرة سنة. وكما قلت لك كان عندي فضول منذ الطفولة أن أعرف ماذا يجري خلف الكواليس؟ وماذا يفعل الممثل بعد أن ينتهي من دوره ويذهب خلف الستائر؟ المسرح بالنسبة لي يحوّل الواقع إلى سحر. في مدينة الثورة كانت لدينا العديد من الفرق المسرحية الشعبية التي على تعتمد مبدأ الفكاهة وحتى التهريج كنت أساعدهم حتى في الديكور من جل أن أكون قريباً من الحالة المسرحية. لم أمثل مع هذه الفرق ولكنني كنت بين ظهرانيها. لقد بذلت جهداً مبالغاً فيه من أجل أن أتعلّم وأتابع، وكنت دائماً أطمح أن يقال عني ذات يوم ( هذا مخرج مسرحي ).
انطلاقاً من هذه المتابعة الفنية المبالغ بها، كما تسميها، ما هي الأعمال المسرحية التي شاهدتها ولم تغادر ذاكرتك لحد الآن؟
- عندما شاهدت مسرحية ( النخلة والجيران ) وأنا طفل صغير لم تغادر ذاكرتي حتى الآن، ومازلت مستمتعاً باللذة التي ولّدتها في داخلي آنذاك. كما تأثرت بمسرحية ( بهلوان آخر زمان ) التي صدمتني آنذاك وكانت من إخراج أديب قليجي وتمثيل وداد سالم. من الأعمال التي لم تغادر ذاكرتي هو ( صراخ الصمت الأخرس ) لعوني كرومي الذي حرّك في داخلي أشياء كثيرة، وخلّف بصماته عليّ. كذلك مسرحية ( سور الصين ) لحيدر منعثر، و ( الخليقة البابلية ) و ( الملك لير ) لصلاح القصب، و ( مكبث ) و ( مشعلو الحرائق ) لشفيق المهدي، و ( علاقات الدائرة ) لحامد خضر، و ( ألف رحلة ورحلة ) و ( لو ) لعزيز خيّون، و ( قطط ) لكريم رشيد، و ( صندوق الرمل ) لسلام العيبي، و ( حكايات العطش والناس ) و ( سوق عكاظ ) لسامي عبد الحميد، و( ملحمة الحب ) و ( رسالة الطير ) لقاسم محمد، و ( قصة حب معاصرة ) لهاني هاني.
هل تعتقد أن المنفى سيولّد مسرحاً عراقياً موازياً للمسرح العراقي في الداخل؟
- عندما كنا في العراق كنا نسمع عن جواد الأسدي وفاضل السوداني وحازم كمال الدين وفاضل الجاف وغيرهم. عندما وصلنا إلى أوربا بدأنا نتابع أعمال المخرجين العراقيين في البلدان الأوربية. أنا أعتقد لا يمكن أن يكون هناك مسرحاً عراقياً في المنفى موازي أو مساوي أو معادل المسرح العراقي في الداخل، ولكن ممكن أن ترى فناناً عراقياً يمثل بلغة أجنبية بشكل جيد وبارع. أنا أشعر بالفخر عندما أسمع بالنجاح الذي يحققه الأسدي أو فاضل الجاف أو حازم كمال الدين. وهذه جهود فردية تعتمد على هدف المخرج أو الممثل العراق الذي يعيش في المنفى. هذا سؤال ملّح يواجهنا كل يوم وهو: لقد قدّمت عملاً أو عملين أو ثلاثة باللغة العربية لهذا الجمهور المحدود وأنت تعيش في مجتمع يتكلم لغة أخرى، هل تظل تراوح مع هذه الجالية العربية المحدودة أم تنطلق لتمثل بلغة البلد الذي تعيش فيه؟ الجواب حتماً هو أن تمثل بلغة البلد الذي تعيش فيه. ولكي أخلق لغة مشتركة بيني وبين الهولنديين مثلاً عليّ أن أتقن اللغة الهولندية. إن الذي يرى أعمال حازم كمال الدين لا يمكن أن يقول عنه أنه مخرج عراقي لأنه يشتغل بأسلوب أوربي.أما أعمال جواد الأسدي فأنها تشير بوضوح إلى أنه مخرج عراقي صرف.
كيف تقيّم التيارات المسرحية التي مثّلها كل من مايرخولد وستانسلافسكي وغروتوفسكي وبيتر بروك وروبرت ولسون وأريان منوشكين ويوجين باربا وغيرهم؟
- هذه التيارات لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت من تجارب وبحوث كثيرة. وهذه الأسماء التي ذكرتها هي رموز عالمية تمثل مختلف التيارات المسرحية في العالم. وكل واحد من هذه الأسماء قد أبدع في مجاله. المهم هو أين أجد نفسي بين هذه الأسماء الكبيرة، ولمن أميل أكثر من الآخر؟ أين هو موقعي الشخصي على بساطة تجربتي المسرحية في التمثيل والإخراج؟ أنا حقيقة استفيد من تجارب مايرخولد وبيتر بروك، بل أن هناك مخرجين تخصصوا بأحد هؤلاء العباقرة ففاضل السوداني تخصص بمسرح مايرخولد وكتب عنه أطروحة قيّمة. عوني كرومي تخصص بمسرح بريشت. أنا عليّ الآن أن أتقن اللغة الهولندية، أما شكل العرض المسرحي فهو يأتي لاحقاً من خلال التجريب المستمر والقراءة المحمومة. من المؤكد أن لدي خلفية معينة أرتكز عليها. أما أميل إلى غروتوفسكي مثلاً لأنه يركز على الممثل. أنا أركز على الممثل لكنني لن أصبح مثل غروتوفسكي ذات يوم. أنا لدي حس شعبي لكنني لن أبقى متشبثاً بهذا النهج. فمن يدري لعلني أجد نفسي في شيء آخر ذات يوم. الأمر مقرون بالبحث والتجريب. أنا أعتقد أن العرض المسرحي ينبغي أن يكتب بلغة شعبية. فالنذر في الثقافة الهولندية يختلف تماماً عن النذر في الثقافة العراقية. وإسقاط الحجب والأدعية والحرز و ( العلق ) يختلف تبعاً للشخصية وموروثها الثقافي والاجتماعي والديني والفكري. فعندما أستخدم ( العلق) مع الممثلة الهولندية عليّ أن أوصلها إلى هذه الروحية الشرقية التي تجعل من الممثلة تتعامل مع هذه المفردة بقيمتها الفكرية والثقافية. إذاً، الحس الشعبي مهم جداً، لكن هذا لا يمنع من الاستفادة من التيارات والمدارس العالمية الكبيرة.
هل تعتقد أن النقد العراقي قد سلط الضوء على تجربتك الفنية والإخراجية بما يتناسب مع منجزك الفني؟
- الحقيقة أنا مظلوم من جانب المتابعة النقدية، ربما بسببي أنا أو بسبب الظروف التي أحاطتني في بغداد وصنعاء ولاهاي. هناك مخرجون مسرحيون عراقيون توبعت تجاربهم بشكل حثيث من قبل النقاد المسرحيين العراقيين مثل ناجي عبد الأمير وكريم رشيد وغانم حميد وغيرهم في المهرجان المسرحي في اليمن كتب عن مسرحية ( تداعيات صالح بن زغيّر ) ناقد مصري هو السيد محمد مصطفى وقال عني كلاماً مدهشاً لم أنسه حتى هذه اللحظة. كتب عني من العراقيين حسين الحسيني وأمدتني كتابته بزخم كبير. في هولندا ثمة عبارات كثيرة قالها عني نقاد مسرح هولنديون من بينها ( أن رسول الصغير ممثل ساحر ) أو ( أنه جلب روح الشرق معه )، أو ( أن له حضور طاغ على خشبة المسرح، ويتدارك نقاط الخلل بخفة بهلوان ). مشاهدة هولندية قالت لي ذات مرة ( أنا جئت إلى العرض المسرحي وكنت متوازنة، وحينما شاهدت مسرحية ( التوازن القلق ) جعل هذا الممثل توازني قلقاً بالفعل ). إنها شهادات كبيرة أعتز بها، وهي حصيلة جهدي الجهيد الذي لن يتوقف ذات يوم