أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
خاص بــ كتابات

حياة باسلة

الحلقة 14

كتابات - حسن النواب

وظلت المقهى المحراب الذي يهرع إليه شعراء الثمنينات ، ليس كلهم كان البعض منهم يرى في تلك الأمكنة ضياعا للوقت، لكن الغريب أن معظم الذين عكفوا عن دخولها لم يحققوا ما يسترعي الأنتباه لهم !! وظلوا حتى الساعة بلا بوصلة حقيقية للشعر ، وربما كان يكمن وراء تمنعهم من دخول واحة الأدب تلك نظرة إستعلائية فارغة .. كون المقهى مكانا متواضعا لا يناسب البدلات الرسمية التي كانوا يحرصون على إرتدائها في المهرجانات .. بينما كان الرديف لهم من شعراء الثمانينييات يحجون اليها من الجبهات البعيدة وبخوذهم المبللة با لدم وعيونهم الجائعة لرؤية المدن ، يتوافدون كطيور ضالة في إجازاتهم الى مقهى الأدباء ن، يحملون في جعبهم الضاجة بالبارود قصاصات قصائدهم المندفعة بإنف طري لكسر قضبان نافذة الشعر التي يجلس الى جوارها بإطمئنان شعراء الستينيات.. والذين لا يزعجهم سوى بعض القيل والقال من شعراء السبعينيات ، فدخول شاعر سبعيني الى مجلسهم يعني أن القهوة أن القهوة التي بين أصابعهم أصبحت باردة .. والحوار الذي يتجاذبونه سيجترح هدوءه ورصانته المقصودة نزق الشاعر السبعيني .. ومع مرور الوقت بدأ الستينيون يفسحون مساحة مقعد أو مقعدين من مجالسهم الرسمية جدا لشاعر سبعيني لا تبلل جبينه قطرات الحياء .. وهكذا ظلت نافذة الشعر العراقية يتزاحم على شرفتها هؤلاء الشعراء .. غير أن الثمانينيين الذين خبروا الحرب وتدبغت جلودهم طويلا على السواتر وفي الخنادق الرطبة .. وتصبب العرق من جباههم مدرارا وهم ينتظرون طويلا في الأستعلامات حتى يسمح لهم المسؤول الثقافي في الدخول .. لأستلام قصائدهم ، والتي سرعان ما تجد مكانها في سلال المهملات .. والشاعر لم يغادر الجريدة بعد .. ولم يلق عليها المحرر الثقافي حتى نظرة الشفقة وهو يقذف بها الى العدم !!& nbsp; ومع ذلك ظلل يقتربون بدعة وسكينه من حشود الشعراء المتربعين على مقاعد الشعر .. كنا لا نتمنع ولا نتردد من جلب قدح الماء الى فم شاعر ستيني ولا نشعر بالأهانة عندما نتربع بدفع ثمن الشاي لشاعر سبعيني.. فالذي نكنزه في صدورنا من هم شعري لكفيل بإزاحة هذه التبعية المقيته مع مرور الأيام ..ظل الثمانينيون يقتنصون حتى الساعات الشحيحة كي يهبطوا بها من دخان السواتر الى دخان الأدباء .. ومنهم يهمل مقعده الدراسي شاغرا لأسابيع عدة حتى يظل متابعا لحلقة دراسية عن الشعر في البصرة أو الموصل أو في مهرجان ما .. ودوما تراهم يحملون بين أكفهم قصائد رطبة ومرتبكة من جراء الخوف وقصف الجبهات وظلام الحرب أو الفصل من مقاعد الحياة الجامعية .. كل منهم يحلم أن يرى قصيدته وقد لامسها حبر المطابع .. إنهم يدركون أن شعرهم أصدق وأقسى وأعمق تجربة .. وسيقهر ذلك الرشح الشعري الذي إزدهرت به صحف ذلك الزمان .. إختلطوا بفطنة وذكاء وتحاوروا بخجل وأرتباك وقرأوا قصائدهم بصوت خفيض ووجع عظيم بالحدائق والحانات والمقاهي وعلى عابري السبيل .. منهم من سيطر سحر الشعر على كل منافذ قوته وإرادته .. فصار يأكل من أيام الأجازة السبعة ساعات بادىء الأمر  ثم أصبحت أياما ..حتى صار في حيرة من الوله الشعري الذي يسكنه .. الخنادق والسيطرات تدعوه للألتحاق والشعر يتربص به وفي خلجان  دمه وروحه .. وسنوات الحرب تتراصف  كحراب حول نطاقه وتشل حركة خطاه .. ومنهم من ركل الحياة الجامعية بزيه الموحد .. وصار يمتهن شتى الأعمال الحره حتى يكون بمنأى عن الدوام الصباحي والألتزامات .. ومنهم من يحمل حقيبته ويغادر بوجع مهيض الى موته في الجبهات .. كان في سره يحسد الشاعر الستيني الرسمي الذي يجلس على أريكة في مقهى الأدباء يدغدغ حبات مسبحته وينظر بعين الزهو لقصيدة جديدة نشرتها له صحف الصباح .. كان الثمانيني يتمنى لو أن المطابع في الجبهات .. ولو أن مقهى الأدباء في الحجابات .. وهناك يحصي ساعات موته ويرسل بالبريد الملغوم بالقنابل وبيد الصديق الجريح قصائده التي لا تجد مأوى لها سوى سلة المهملات .. وإشتد القصف وإشتد الشعر على طول الجبهات .. بينما الناقد الستيني يقترح تأجيل أماسي تموز لحرارة الطقس في نادي الأدباء..
ياويل قلوبنا العطشى لجرعة ماء على السواتر البعيدة .. هاهو الشاعر الثمانيني يستمع من المذياع وهو على برج دبابة الى قصيدة شاعر مليئة بالدخان المزيف والرصاص الخلب .. إذ أن شاعرها الستيني في حقيقة الأمر كتبها في غرفة مكيفة لا يدخلها حتى هواء  شوارع بغداد .. ويحزن أكثر على قصائده المغطاة بالشظايا والتراب وأنين الجنود الذين نزفوا دماءهم هباء .في إ جازته يدخل المقهى يسأل كغريب عن عبد الزهرة زكي وسعد جاسم ووسام هاشم وصلاح حسن والغجري نصيف الناصري ومحمد مظلوم والمرعبي والنصارين زعيم ومحمد وك اظم .. وهاشم معتوق .. فيجيبه الشاعر الستيني بعيون شامته .. بعضهم عاد الى الجبهة والآخر ينحب في الحانات .. ويسأل من جديد عن علي السوداني
وشوقي كريم وحميد المختار فيجيبه آخر من طرف لسانه إنهم مازالوا في الجبهات .. يجلس وحيدا يشرب شايه البارد .. ويقول في سره ماذا لو صادفني الآن جواد الحطاب أو كزار حنتوش بطيبته القروية وأزال الوحشة عني .. جان سافر الى إبراهيم البهرزي .. هل ألحق به الى ديالى .. ربما الآن في طريق العودة فهو لا يطيق البقاء بعيدا عن قطته بغداد ..
يا ألهي هل من المعقول ولا ثمانيني في المقهى غامر بالهروب من وحدته العسكرية الآن .. وكيف يهرب  والأعدامات صارت بالشوارع  .. ربما يدخل المقهى فجأة عدنان الصائغ بعصافيره التي لاتحب الرصاص .. أو عبد الرزاق الربيعي من معهد المسيب  .. أو وارد بحزنه البصري .. ويترقب .. ويترقب .. لا شيء سوى الشعراء  الذين يقتسمون مائدة  الستينيات  وليس هنالك غير الماجدي الذي يأمل قدوم رعد عبد القادر من البصرة حتى يقرأ له خزائيل .. هكذا ظلت سنوات الجمر تتراكض في سطوع قلوبنا .. وتتراك ض قصائدنا بين الملاجىء وساحة العرضات والكراجات والحانات التي نمضي بها أيام حريتنا السبعة .. وفي زحمة النار والشظايا بدأنا نرى بعض قصائدنا وقد كحل عيونها وجمّل قوامها حبر المطابع .. أية فرحة تضاف الى الروح وأنت ترى قصيدتك منشورة الى جنب شاعر ستيني
ويتابعها بالنقد شاعر سبعيني ، وأخبار الجبهات تبكي قلوب الأمهات الثواكل .. أه ما أحلى أن تنشر قصيدتك وأنت في إجازه حتى يراها أترابك الشعراء .. الثمانينيون ظهروا رويدا .. رويدا .. على شرفة الشعر العراقي .. وكبرت أحزانهم وكبرت قصائدهم .. تارة يمسحون الدمع من خوذهم .. وتارة يلعنون جهارا  الحرب.. وأخرى يزيلون يقايا دم الشهداء عن قصائدهم .. صارت لهم أسماء يتباهون بها .. وقصائد يراهنون عليها .. قصائدهم التي رافقتهم بالهجوم وإستبسلت معهم ،  صارت قصائدهم بوصلات الروح في مزاغل السو اتر ودروب الألغام .. نضجت جراحهم وأينعت  أصدافهم المتوحشه .. وأصدروا دواوينهم ..
وأختلفوا وتصالحوا وتشاجروا كثيرا .. في ما بينهم  .. وأقتربوا وتباعدوا .. والآن اصبح كل واحد منهم يحمل وجعه بمفرده ..لقد تفرقوا كل تحت نجمة في السماء وبيده المعفرة بالبارود يمسك حبل ثوره الشعري . يحرث  أرض الشعروحدانيا .. ويزرعها بذور شهقاته وغربته .. التي جمعها من ويلات الحرب كي تزهر بالنور الملائكي الذي يحمل  كنيته ..
ولكن لم يبق الحال هكذا .. فا لحرب مصرة على إلتهامنا واحدا واحدا .. ولابد من  الهروب الى الشمال ....


(*) موقع "كتابات"  19-6-2003
 
البحث Google Custom Search