في البدء :
(مَنْ سيرتّبُ هذا الصباح القلق/ الفناجين باردة كالصداقات/ والحرب تعلك أيامنا/ أقلبي الصفحة الآن/ برجك تشغله الوفيات / وبرجي تملؤه الطائرات.../ أنت لو تفهمين إذاً كيف تجمعني الحربُ في طلقة/ ثم تنثرني في شظايا المدن/ اقلبي الصفحة الآن لا وقت/ إن القنابل تقتسم الأصدقاء) -
عدنان الصائغنكتب لنتنفس , لنرفض كل سفسطائية الكون والأشداق البغيضة الملتفة حولنا ، نكتب لندوّن صرخاتنا المتناثرة هنا وهناك ، لأننا ندرك أن الألم والكتابة سمو ورقي حين نتلبسهما أو يتلبساننا نصبح كائنات شفافة لا تراها سوى ملائكة الجمال والنقاء .
لن أتحدث كثيرا عن الكتابة وحاجتنا اليها كأكسير للحياة , إن ما يشغلني هو أنني لا أستطيع الكتابة بصدق إلا حين تتلبسني حالة من القلق والكآبة المرة ، حين نضع الكآبة على مفترق الكتابة ونوغل فيها في محاولة (للاحتيال على البرد الذي
يكتسحنا في الداخل ) على حد قول صباح زوين نبحث عن الكتابة من أجل بعض الدفء وبعض الامان وأحيانا لنمارس طفولة أضعناها أثناء بحثنا عن معرفة أو مطاردتنا لحلم ، مجرد حديث ذاكرة تحرك ذات وجع أو حنين .
كثيرا ما تغادرني لحظة الكتابة وكثيرا ما يقلقني هذا الغياب ولكن تعود بها تلك اللحظة السوداء كهبة من السماء , اللحظة التي أصبح فيها ناضجة وحزينة لأتحول الى ما يشبه القديسات اللواتي يخلصن للمعبد , ويهبن حياتهن كلها للآخر ,
أتعجب كيف يجعل منا الحزن ناضجين نمتلىء رزانة وجدية وبداخلنا طفل مجنون يضرب جدران الورق .. أهو التناقض ؟ أم هو حالة خاصة لا أجيد التعبير عنها كما ينبغي نظرا لقداستها وعظمتها .
أحاول آنذاك ترتيب روحي من الداخل لكن ثمة فوضى ترتعش في حواسي , تجعلني أفر دون إدراك أو وعي إلى البياض , إلى حقول الثلج المطفأة , بحثا عن صوتي أو بحثا عن صمتي , ولعل وجود مبدعين كثيرين يتنفسون الكتابة في حالة الكآبة هو ما جعلني أقف كثيرا واتساءل هل تقرأون كآبتي ؟؟ هل تستطيعون فهم الصراخ / الصمت أو حتى أنين الورق العالي , يحدث حين اقرأ ابداعا ان أصاب بكآبة , ويحدث أن أبحث عن القراءة في لحظة الكآبة , ويحدث ايضا أن أمزق ذاكرتي في هذه اللحظة .
تقول ريتا عودة : ( وأخيرًا.. تظلّ الكتابة..سلاحا نحارب به الكآبة..وتظلّ الكتابة..وسيلة ودعوة لإشباع وتحقيق الذات بالرغم من كلّ ما في الحياة من أيام غُربــَة... وَمَـــــنْــــــفَـــــــى !! ) ..
أقرأ هذه اللحظة رواية الشاعر عباس بيضون تحليل دم , فأشعر معها باللغة الحزينة والسوداوية التي تلفها , وأستشعر حاجتي للكتابة , وهذا ربما هو المحرك الرئيس الذي يساعدني على الكتابة هذا الصباح , فالشاعر لا يستطيع إلا أن يكون حزينا ومتوترا وقلقا ليكتب , ويبدع , ربما هو قدر الثلج أن يقف أمام الشمس لتذيب جليده فيخرج من تحت أرجله العشب .
لا أستطيع إلا أن أتلمس الروح الشفيفة التي تهدر محركات الكتابة , فيخرج هديرها كأصوات مملة ومزعجة , وخائفة من الفعل , هكذا نكتب , وهكذا نمارس جنون الكتابة وطقوس الكآبة .. وهكذا نعيش.