أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الوقت مايزال مبكرا للأعتراف بألتفاصيل كلها..
الوقت يمسك الحدث من آخره.. كيف سيتسنى للذاكرة اليوم وسط تزاحم موجات من البشر التي تريد التعويض عن الحرمان لعقود.. مثلما تريد اولوية الأمتيازات .. أن تستعيد بترتيب أخلاقي وضمير صادق.. الأحداث والمتغيرات التي صنعت من قبل:
مأساة هجراتنا او جنون بقائنا في البلاد.. نتعايش مع النمر ونحتمل الألم المر ..
ما يزال الوقت مبكرا ليحكي كل منا شهادته.. مايزال الحزن أكثر من الدم.. وحتى يتساويان يوما..
ربما يستفيق الصدق .. وتنتهي غيبوبة النشوة التي خلقها وهم انتصار..
أذكرهم كيف انسلوا من مقاعد كلية الآداب اول السبعينيات: محمد عوض وفاضل السلطاني وموسى الخميسي ومخلص خليل ورضا الضاهر وسلام مسافر وسعدي الحديثي وعامر العاني.. وآخرون من كل لون جمعتنا المغامرة في الفكر.. والمحبة..
وأذكرهم كيف انسلوا من المقهى الثقافي ..
سركون بولص رحل باكرا.. وعبد الرحمن طهمازي الى عزلته.. وعبد القادر الجنابي الى جنونه..
وفاضل العزاوي .. الى غربته وعشرات الأسماء التي صنعت أثرا ثقافيا.. وتركت معنى..
التشكيليون.. ضياء العزاوي وهاشم سمرجي ويحيى الشيخ وعلي طالب ورافع الناصري
وصوت الموسيقي كوكب حمزة.. وآخرون.. أتعب إذ أتذكر وأحزن وأنطفي..
كانت بغداد قد بدأت تغلق مقاهيها.. وباراتها ذات الخصوصية يوما إثر يوم..
كافيه بغداد والبرازيلية وبيكاديلي وسمر ومقهى مجيد ومقاهي الأدباء.. والأصدقاء والمحبين لأنها كانت خطرا على الجنرال ونظامه.. وحتى بار (توينتي وان) ..أغلق بأمره في التلفاز يوم كان يحمل عدة انتصاراته الكاذبة.. ويتحدث مع احد معارفه وكيف تواعدا يوما.. في ذلك المكان الذي رآه لا يتفق وريفيته البلهاء.. فأغلقه فجأة.. وتاه رواده من صفوة مثقفي المدينة..
كان كل شيء مصمما كقفل .. وكنا نحن الذين اخترنا البقاء نأمل كل يوم أن يتغير الظلم.. ربما.. بعد هذا الحدث أو بعد تلك الحرب.. ولكن الأيام كانت تثبت سذاجتنا وبساطة تفكيرنا.. أو اننا أقل مغامرة.. أقل مغامرة حقا من ان نجد وطنا آخر غير هذا الوطن وغير تلك الخسائر.. وغير ذلك البكاء..
كانت الحروب تأكل الأجيال .. وكان الديكتاتور يصمم خططه لتوريط الجميع الى النهاية.. ولم يسلم منها الا ّ اولئك الذين قتله أو شردهم في المنافي والهجرات أو نحن الذين قتلنا اثناء الحياة..
كانوا ينسلون تباعا.. عبد الستار ناصر وخزعل الماجدي وفاروق يوسف وعدنان الصائغ.. عبد الخالق كيطان وعلي عبد الأمير..وعلي الشلاه..وستار كاووش وجيل التشكيليين الجدد وياسين النصير ..محمد مبارك.. وحتى نصيف الناصري ومن قبل جان دمّو.. بكل ذلك التداخل المحّير بين أسماء وصفات وأتجاهات ..و..
أجيال وأنتماءات.. متعددة يعصى على ذاكرتي حصرها في ميادين الفكر والثقافة.. من خيرة ألأسماء.. بحيث كانت الصدف التي تجمعنا في غفلة من الزمن في مطار أو مدينة مثل مناحات حزينة
ولن أنسى الأنين الذي أنتابنا يوم جمعنا الصديق حمزة الجواهري في منزله في دولة الأمارات يوما قاسم حول، جمعة اللامي، محمد الجزائري، سعدي الحديثي، ضياء العزاوي، شريف عزيز شريف، عباس السكافي وأنا، ومجموعة من الوجوه لن أنساها وهي تعبر عن الشجن والحزن.. وجنون الدكتاتورية.. التي زرعت الشك والفرقة والخوف بيننا..كنا نقترب ونخاف من بعض..
كنا نحكي ونتردد فقد كان الدكتاتور يسكن في اعماقنا ويزرع التردد والرهبة حيث كان كل منّا، يحمل مخاوفه: هم في غربتهم وأنا قادم من البلادوالبلاء والرزايا..
خوفهم هناك.. وخوفي حين أعود.. ذلك الذي سيشي بي.. وتتكرر تلك الصورة في كل مرة نلتقي. أحدا.. أو نسترق لحظة اللقاء في عاصمة بعيدة أو محطة سفر.. وحتى المكالمات التي كنا نجريها من الهواتف في شوارع الدنيا.. كنا نتلفت حين نجريها ونحن في مدن نائية.. أي هلع كان يسكننا، ويسكن الناس.. ولكن الساعة يعود الغائبون.. يعود المهاجرون. والمهجرون..
الساعة .. يعودون الى بغداد والمدن البعيدة في الجنوب والشجن والجبال وألأسئلة.. يعودون بخطى حذرة ورحلات سريعة وكأن الريبة صارت قدرنا المكتوب.. والخوف ملاذنا النهائي.. أي فرقة في الروح.. وأي أرتياب يمسك بتلابيبنا في غمرة اللقاءات الحميمة..
الساعة يتواصلون وسط محاذير الموت والقنابل المزروعة..واليد الغادرة.. ولكن الجميع يبحث عن الصحبة الأولى والذكريات ألأولى والتآلف الأول.. القصيدة الأولى.. الحزن الأول.. الكل يبحث عن مدينته كما تركها ..والشوارع كما تخطى على ضفافها..والوجوه كما أحبها، ويا لحزن اللقاءات.. والبكاء .. والتفرس الحميم في الملامح..
شيء ما يزول مثل كابوس من قلوب الناس أحسه كل يوم ..في زيارة صديق ..في هاتف محب، في عودة مغترب أو مغّرب .. في صوت الأطفال و صياح الباعة كل صباح جديد.
شيء ما يخرج من الأجساد .. من القلوب ..م ن الكلمات.. شيء مثل الكراهية التي زرعتها سنوات الحقد والدم.. والموت..
شيء حميم يبتكره الناس العاديون.. وهم الذين يسيّرون الحياة منذعام.. حين يغيب النظام..
وهم يجدون الحلول حين يصعب الحل .. وهم يبتكرون التسامح.. والحوار بعفوية صادقة وقلب مفتوح.. فيما يكرر الكثيرون هنا وهناك مطولات الكراهية والثأر والجنون في الأقاصي.. شيء تبتكره الذات العراقية.. رغم التشاؤم ..
شيء ينمو مثل العشب البري بلا حدود..يكرس ألألفه والأقتراب..
ودائما كنت آخذ أصدقائي العائدين ليتأكدوا بأنفسهم من العاطفة التي تملأ الناس.. رغم التفجيرات اللئيمة ..وألأغتيالات المفتوحة..والعتاب الصعب .. والجراح التي لاتندمل..
قدر العراقيين هو الحب.. رغم أنه سرق منهم لعقود سوداء ..
وقدر العراقيين العاطفة .. رغم الجفاء الكسير الذي خلقته السنوات الكابوسية
ثمة شيء يخلّق.. ثمة ثقافة ونصوص.. وعاطفة مختلفة..
ثمة معنى جديد لحياتنا .. رغم الأبهام في العبارة..
ثمة شمس من الحب بين الناس.. رغم الغيوم..
شيء يخلّق من جديد .. عودة اللحمة.. والمحبة.. والجيرة.. والصداقة.. والسلام.. والتآلف.. والحوار.. شيء يولد رغم الصعوبات هو .. إعادة الأتحاد بين الناس من جديد.

فاروق سلوم
- بغداد -
24 اذار 2004


(*) موقع كيكا 3/2004، وفي موقع كتابات27   آذار 2004
 
البحث Google Custom Search