أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
شعر الشباب:

عدنان الصائغ

هادي الربيعي

مما لاشك فيه، أن هناك مواهب شعرية متميزة، تفرض نفسها على المتلقي دون عناء، ذلك ببساطة لأنها مواهب حقيقية أصيلة ترك الزمن عليها أصابعه الساخنة، فانتفضت تحلق في سماوات الإبداع، وهي تترنم بنشيد وجودها المضيء.
والشاعر عدنان الصائغ، لا يحتاج إلى شهادة ليؤكد انه موهبةً شعرية أصيلة تتحرك بحيوية لتأخذ حقها الطبيعي تحت شمس الحياة، ومن أولى بديهيات العمل الإبداعي، أن الإبداع الحقيقي هو الذي يفرض نفسه رغم الصعوبات الكثيرة التي تعترض الطريق، وقد يحدث أن يأتي الاعتراف بالموهبة متأخراً، وقد نخفي اعترافنا لهذا السبب أو ذاك، ولكن الصوت المبدع الأصيل، الذي يجتاز حصار الأصوات الكثيفة، هو الذي يبقى أخيراً ليعيش تجربة المواجهة مع الزمن، غير أن هذه الموهبة، شأنها شأن المواهب التي تومئ بالوعود الكبيرة على طريق الإبداع، تحتاج إلى مناقشة متواصلة، في الحرفية الشعرية، للوصول إلى الصفاء المنشود في القصيدة، وربما كان الصائغ اكثر الشعراء نشراً خلال السنوات الأخيرة، وهذا يعني وجود احتمالات كثيرة للسمو بالقصيدة أو الهبوط بالمستوى الفني لها، وكثيرة هي القصائد التي نشرها الصائغ وهي تحمل الأشواك التي تؤثر على جمالية البناء الفني لزهرة القصيدة، غير أن عناصر عديدة كانت تتظافر لتحافظ على توازن القصيدة في ذاكرة المتلقي، وتمنعها من الهبوط إلى المباشرة.
عالم الشاعر عدنان الصائغ، فيض من صباحات مضيئة، وشموس وأقمار بهيجة، وقلوب تشرع نوافذها على الفرح، في بح عذب من أفراح المطر والأزهار والابتسامات وجسور الضوء والنوارس والوجوه السمراء التي لفحتها شمس الحياة، والفتيات اللواتي ينشرن النجوم المضيئة من ضفائرهن السوداء الطويلة.. كل هذا يرتوي من نهر الكوفة الوادع الصغير، الذي يمتد من ابعد الأعماق في الذاكرة المضيئة، ليتواصل مع ذهول الرؤيا للشاعر الذي تشتبك في أقدامه طرقات المدينة، وحتى الغيوم السوداء التي تندفع بطيئة ثقيلةً، وهي تعبر سماوات الشاعر في ساعات الوحشة الطويلة، لا يكاد يحسها المتلقي، إلا نوعاً من العذاب الجميل الذي يتوهج فوق قلب طافح بالحياة.
"هي الآن تنبت في ضفة الجرح
تغسل أوراقها المتربات على النبع
قبل مجيء الصبيات من آخر الحي
تلبس ألوانها
تغازل ضوء القمر
الصبيات من آخر الحي يأتين
سرب قطا
كن يحملن شوق الجرار
هي الآن في ضفة الجرح تكبر.. تورق.. تشمخ
بالعطر والعنفوان
فيا زهرة العشق كل المساءات عشق فريد
وكل الزهور التي في الحدائق يا حلوتي
أورقت من جراح شهيد.."
وهكذا نرى جدية محاولة الشاعر في تحقيق المعادل الفني، فالزهرة هي المحور الذي يلتف عليه نسيج القصيدة، وهي الرمز ذو الدلالة العميقة للشهيد، غير أن الصائغ يفقد خيوط المهارة الشعرية حين يأخذه الإسراف في التفاصيل بعيداً، فهو يدخل هادئاً ليصف الزهرة التي تنبت فوق ضفاف الجراح، وتتجسد الصورة اكثر حين يصفها وهي تغسل أوراقها المتربة على النبع قبل مجيء الصبيات، فتتشكل في الذاكرة، صورة الزهرة التي تظل يانعةً رغم أنها تنبت فوق ضفاف الألم، من اجل أن تظل ضحكات الصبايا مشرقةً فوق حقول الوطن.. ثم يأتي الإسراف ليؤثر على جمالية البناء الفني للقصيدة، - تلبس ألوانها – تغازل ضوء القمر – وليس أمام الذاكرة، غير الانتقال إلى مشهد مناقض لا يمكن تبريره فنياً، في تأتي الخطابية الواضحة في الأبيات الثلاثة الأخيرة، لتزيد من ارتباك المعنى في ذاكرة المتلقي، ويفقد الصائغ فرصة رائعة للوصول إلى واحدة من القصائد الجميلة.
وهنا نتوقف قليلاً لنتأمل لماذا تظل كلمات الحكمة، عالقةً في أذهانها، متوهجة بالمعاني الكبيرة؟
لاشك أن الجمل والعبارات الحكيمة، هي خلاصةً لعذاب العقل في التجارب الزمن القاسية، ومن هذه الدروب، اينع العقل بثمار مضيئة من الحكمة، التي تجسد خلاصة عنائه في رحلته الطويلة، وليست القصيدة إلا خلاصة بكل ذلك، حيث تزهر ثمار القصائد المضيئة، وهكذا نهض مع القصيدة حكمتها وهي ترتاد مملكة الخيال.
في قصيدته – وقوفاً إلى أن تمر الشاحنة – 2 – لا يتوقف الشاعر عند حدود رسم المشاهد حسب، بل انه يضيف لقصته الشعرية عنصراً درامياً، ونلاحظ في هذه القصيدة تكراراً لبعض المعاني في – صباح الخير أيها المعسكر – يقول الشاعر:
تنهض مدينة الكوفة، المدينة الوادعة الصغيرة في ذاكرة الشاعر، لتكون رمزاً للوطن والحبيبة وبراءة الأيام الأولى البيضاء، وينهض جسر الكوفة ممتداً على ضفتين من الوهم أصبحتا الآن اكثر ابتعاداً، طفولة الشاعر البعيدة، والحاضر المحاصر بحقائق الحياة القاسية، وعلى طول هذا الجسر، تعدو الأمنيات مبهمة الرؤيا، فهي تعدو نحو ضفاف الطفولة في محاولة يائسة لاغتراف رشفاتٍ من ينابيع البراءة الأولى، ولكنها سرعان ما تكشف وهم المحاولة، فتعود ثانية إلى الضفاف التي تفضي إلى شيخوخة القلب، وبين هاتين الضفتين، يتوهج الشاعر بالحياة، ليلهو مع الشمس في الأزقة، يبتاع الحلوى ويكتب الشعر ويركض خلف العصافير التي تهرب إلى أعشاشها في أعالي الشجر، وحين ترسل الغيوم نثيثها الناعم فوق الأرض التي تمتد جذوره فيها إلى أبعد الأعماق، يفتح ذراعيه ويعدو فرحاً وهو يحاول الإمساك بشعر المطر الغزير.. وحين يهرأ فيه عنفوان الطفولة، ينتحي زاوية يتأمل من خلالها حركة الأشياء بأسى شفيف عميق.
من بين أهم سمات اسلوب الصائغ، كتابته لما يمكن أن نسميه – القصة الشعرية – فأنت حين تقرأ العديد من القصائد، تلاحظ وصفاً مضيئاً للمكان والشخصيات، ويفضي بك السرد القصصي إلى استكمال ملامح القصة التي تتشكل في الذاكرة مع تدفق الأبيات الشعرية المتلاحقة، وحين تصل إلى الختام، تكون قد حصلت على قصيدة قصصية، تعطيك رؤية واضحة للموضوع، وتكتفي بالإيجاز وتكون مهمتك أنت كقارئ، أن تضيف التفاصيل الضرورية الأخرى.. التي تستكمل بها القصة اشتراطاتها.
هذه القصة الشعرية يمكن أن نجدها في قصائد – صباح الخير أيها المعسكر – تفاصيل لم تنشر عن المقاتل الفنان حسين حيدر الفحام – وقوفاً إلى أن تمر الشاحنة.. والعديد من القصائد الأخرى، ففي قصيدة – صباح الخير أيها المعسكر – يصف لنا الشاعر، صباحاً مضيئاً من صباحات مقاتلينا، حيث تستفيق البنادق قبل العصافير، وتفل الشمس ضفائرها الزاهية فوق أحواض المياه الهادئة، وتنهض في القصيدة شخصيات قصصية، فمكي مغرم بأحاديث البطولة، وقاسم الذي يقرأ أشعاره، يذكرنا بالطفولة والرازقي الجارة الجميلة، والعريف فؤاد يحب الجرائد والأزهار ونخل السماوة، وهكذا يتوضح أن الشاعر يضفي لمسات تمنح الشخصيات خصوصيتها، وتتوقف القصيدة لتبدأ رحلة المتلقي وهو يستكمل في ذاكرته، التفاصيل الضرورية الأخرى، ليل المقاتلين، المواجهة، القصف المعادي، صولات الجنود، وكل ما تضج به يوميات المقاتلين من أحداث.
في ديوان الشاعر عدنان الصائغ، محاولات جادة لتحقيق المعادل الفني في القصيدة، وتكون هذه المحاولات اكثر وضوحاً حين تنطلق القصيدة لتسجل عالم ذات الشاعر، وإذا كان قد وضع أولى الخطوات على هذا الاتجاه، فان القصائد اللاحقة مثل الرسام، الرسام ثانية، في المكتبة قد حققت التجاوز الذي بدأت محاولته في صفحات الديوان ومن هذه المحاولات قصيدة زهرة الشهيد (1) التي يقول فيها:
"وقوفاً فان الصباح استفاق على خطوهم
قبل أن تفلت الشمس من مغزل الليل
يا حلوتي،
قبل أن تستفيق العصافير من نومها
استفاقوا ومروا على العشب حيث الندى
وكان المدى.. اخضراً.. اخضرا
مثل عينيك في موسم العشق والازدهار
نحن في الشاحنة
لغة ساخنة
من هنا ساعة الصفر يا حلوتي
تبدأ الأزمنة
وعلى صدر عباس وشم
طرزته بنادق تشرين ها هو يزهو به
ضاحكاً.. فاتحاً.. صدره للرياح
ومحمود هذا الذي علمته ليالي الشعيبة
أن يعرف النخل في الليل من شم أعذاقه
نخلة.. نخلة.. ورفيقاً.. ورفيقاً
يسامرنا كل ليل ويحكي لنا عن طفولته المتربة
وعن نهر قريته
وعيون التي خلفت في دماه ضفيرتها العاشقة
بانتظار الإشارة
عباس مازال يرقب ساعته
ثم يسألنا في هدوءٍ نبيل
متى تبدأ الأزمنة.."
ها نحن نذكر القصيدة كاملة، ليتوضح لنا هذا الجانب من اسلوب الصائغ، وتتكرر هنا لمسات الشاعر لإضفاء الخصوصية على الشخصيات، وتكتسب القصيدة حيوية تنبغي بعنصرها المتمثل في المقاتلين الذين ينتظرون الإشارة، لتنفيذ إحدى المهمات القتالية، وتظل الذاكرة مفتوحة لاستقبال تفاصيل أخرى تستكمل بها هذه القصة الشعرية ملامحها..
والشاعر عدنان الصائغ، صياد صور شعرية جميلة، ولاشك أن من بين أهم ما يمنح ديوانه، كل هذه الحيوية والرشاقة في المفردة الشعرية، هو هذا الفيض المترادف من الصور الجميلة الموحية التي تنتشر على عموم صفحات الديوان، وقد يصطاد الشاعر صورة جميلة نادرة، تثير فينا الانتباه إلى القدرات الكبيرة التي تمكن في هذه الطاقة الشعرية الواعدة بالكثير، فمن لا ينتشي بهذه الصورة الشعرية الرائعة في قصيدته، "أغنية على سفوح خليفان" – 3 – :
"كان الضوء المتسرب من باب الخيمة
يغمرني
أتخيلها الآن على الشرفة
والضوء المتسرب من بين غصون التاريخ
يتساقط كاللؤلؤ
فوق ضفائرها"
لقد احتوى ديوان الشاعر عدنان الصائغ – انتظريني تحت نصب الحرية - على حياة نابضة في الكلمات، وهذه الكلمات كانت تصدر صادقة من أعماق قلب يفيض بالحب للحياة، وهذا هو السبب الذي يجعل كلماته تتردد في أعماقنا، وهو السبب الذي يجعل الشاعر يحتفظ بمسافة جيدة بينه وبين القارئ، ويبدو قد هدأ الآن قليلاً ليتأمل حكمة القصيدة.. هذه الحكمة نلمسها بوضوح في قصائده الثلاث التي أثرنا إليها.. وأنا اعتقد أن قصائده – في المكتبة – الرسام – الرسام ثانية – قصائد تمثل انعطافاً حاداً نحو ترصين البناء الفني للقصيدة، ولو تأملنا هذه القصائد بشيء من التحليل، نجد انحسار الروح التي كتب بها الشاعر قصائد ديوانه البكر.. وأعني انحسار الصورة الشعرية المشرقة والتدفق في الكلمات والإسراف في التفصيل.. انه هنا اكثر حكمة في كتابة القصيدة، واكثر تأملاً في موضوعها.. وأكثر عمقا وهو يلامس جذور التجربة وحين سيمسك الشاعر زمام القصيدة التي وصل إليها أخيراً، سنطلق الأناشيد ثانية من قلب الشاعر المتدفق بالحياة، وسيكون الأوان قد آن لتنهض القصيدة حاملة حكمتها الجديدة للآخرين.



إشارات:
1 – صباح الخير أيها المعسكر ص 23 / الديوان
2 – زهرة للشهيد / الديوان / ص 29
3 – وقوفا إلى أن تمر الشاحنة / الديوان ص 65
4 – أغنية على سفوح خليفان / الديوان / ص 71
5 – في المكتبة – الرسام – نشرتا في الجمهورية بتاريخ 14/4/1985 و 11/8/1984


(*) نشرت في صحيفة "القادسية" ثقافة 16/7/1985
 
البحث Google Custom Search