هوامش:
هذيان "عبود" العربي بلكنة عدنان الصائغ
طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية
من الصعب أن تعرف عدنان الصائغ كله. إنه نهر من العذابات والآلام والشوق إلى القول والتشهي إلى أن يسمعه الآخرون. إن لديه الكثير الكثير ليقوله، الكثير مما عاناه، وليس في عمره إلا المعاناة، والكثير مما قرأه، والكثير مما يسافر إليه بالرغبة أو بالنفي. و"نشيد اوروك" ليس إلا مدخلاً إلى معرفة عدنان الصائغ بأحماله العراقية الثقيلة. عدنان الصائغ هو "عبود" الذي يهذي حكاية الإنسان العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة. و"عبود" العراقي في "نشيد اوروك" يمكن أن يقرأه أي عربي بلهجته، مبدلاً بعض الأسماء، محافظاً على الملامح والسمات جميعاً، فإذا "الهذيان المسعور" المنطلق كصرخة احتجاج، هو صوت كل واحد منهم حيثما كان على اتساع هذه الأرض النازفة بشرها وكرامتها، تاريخها بالماضي والحاضر والمستقبل. أما "أوروك" فهي المدينة السومرية القائمة بقاياها بعد جنوبي شرقي بغداد، وعلى مسافة بسيطة شرقي مجرى الفرات الحالي، ويمر فيها شط النيل المندرس الذي كان مجرى الفرات القديم، وهي مسوّرة على هيئة شبه دائرة، ومنها عرفت أطوار حضارة وادي الرافدين وهي: مدينة كلكامش ورمز الإله ديموزي ومعبد الإلهة إينانا. وأما النشيد فأطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي، على الإطلاق، فإذا أضفت إليها هوامشها التي تزيد عليها طولاً، باتت أعمق صرخة وجع صدرت باسم ملايين المعذبين والمضطهدين والمحرومين من أوطانهم ومن حقوقهم فيها. ليس "نشيد أوروك" شعراً بالضبط، وإن كان النفس الشعري يضبط إيقاع نصه الطويل، ولا هو رواية تماماً، وإن كانت معالم الرواية تطل من بين السطور ثم تحتجب.. وهنا مختارات عشوائية من بعض سطوره المثقلة بالمعاني والرموز: "خسرنا البلاد خسرنا الأغاني ورحنا نجوب المنافي البعيدة نستجدي العابرين ولي في الرصافة نخل وأهل ولكنهم ضيّعوا – في الهتافات – صوت المغني (وعبود يرنو لسوط المحقق.. وهو يلملم أقواله الذابلة) أيها الذابل الآن تحت غصون المكاتب كم عبرت قلبك الغيمة القاحلة وحيداً". ........ "... والجنرال بعزلته ضاحكاً من أناشيدنا الوطنية حين نعود من الحرب نسحل أشلاءنا والأرامل مُعولة في الخيام فأين نساؤك يا سعد؟ منشغلات بجمع الغنائم لا آيم بينهن تنوح فما تنفع الفتوح ولا شجر تحته تستريح ولا وطن أو ضريح أنحيا الحياة قتيلاً يجر قتيلا أم نكتفي بالقليل من العمر" ........ آه يا وطني أكل بلد تسوق أبناءها للحروب العقيمة تدعى وطن؟ أكل مجنزرة حرثت حقل أحلامنا في السواتر تدعى وطن أكل فتاة نسينا طفولتنا في ضفائرها نسيت قلبها في سرير المقاول, تدعى وطن أكل جدار نزفنا عليه الشعارات, يسبقنا في الهتافات نحو البنوك ونسبقه في المجاعات نحو المخافر.. يدعى وطن؟" ....... "كل شئ بدد وما نحن إلا خيول سباق الأبد فلماذا ولدنا وفي عنقنا حبل مشنقة تؤرجحنا الريح ذات المنافي وذات البلد؟!" ...... " - كم ساعتك الآن؟! - منتصف الموت ببغداد"
(*) نشرت في صحيفة "السفير" – بيروت - ع 7485 الجمعة 6 أيلول 1996
|