أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
يتأبط حزناً أم يتأبط جمرات

مراجعة لديوان عدنان الصائغ الأخير: تأبط منفى

صلاح أحمد
- السويد -  

يتأبط, حزيناً ومنكسراً, عدنان الصائغ منفاه.. ويخفّ بإيقاعات ساخنة متنوعة إلى تسجيل يومياته حدثاً حدثاً, تراوح بين الغناء الشجي والقص القصير جداً, والحكم البالغة الإيجاز, وهلوسات المتصوفة, وتداعيات تغور إلى الما وراء, لكنْ بنبرات ايماضية خاطفة, وحسبُه أنه يلخص مع كل إيقاع هواجسه الآنية, ورؤاه في كلمات انطلاقاً من: خير الكلام ما قلّ ودلّ.. فقصائد " تأبط منفىً" تشكل في مستوياتها المختلفة خطوة متقدمة في مساره الشعري, من حيث التقاط أحداث يومية ورصد الصور مرئية ولا مرئية, عادية, أو ذات صلة بالواقع المعاش.. تبتعد آناً إلى الماضي وآناً آخر تتوغل في سخونة الحياة ومتاهات ميتافيزيقية.. وآناً ثالثاً يتماهى في متون الأحلام وهلوسات التصوّف.. ويتميز الديوان, أيضاً, بكمونه على قدر كبير من دينامية الشعور بالغربة, والحنين إلى جنبات الوطن, والسخط على منْ أوصلوه إلى المنافي البعيدة.. وحين تتوزع إحدى وسبعون قصيدة على صفحات الديوان الـ 139 صفحة فكأنما هي إحدى وسبعون لوحة تشكيلية داخل صالة من عدة أجنحة.. أغلب اللوحات صغيرة لكنها محتشدة وممتلئة بتفصيلات حياتية وشعورية ورؤيوية عميقة الثراء والدلالة, يتخللها شجو ووجع وانكفاء وشطط: في وطني/ يجمعني الخوف ويقسّمني/ رجلاً يكتبُ/ والآخر خلف ستائر نافذتي/ يرقبني – قصيدة شيزوفرينيا ص8.
وسأسمّي كل قصيدة لوحة.. فالصائغ هنا غير معني بأن تكون قصيدته موزونة أو مجردة من الوزن، تجريدية أو واقعية أو تعبيرية. إنه يرسم، وحسب، لحظة الحياة, تارةً بعينيه وتارة أُخرى بعقله وشعوره. وتكون غائمة أو متألقة، ساخنة أو دافئة. قوية أو شاحبة.. فثمة قصائد مكرّسة لغنائية حزينة توغل أحياناً في اليأس: اطرق باباً/ أفتحه/ لا اُبصرُ إلا نفسي بابا/ أفتحه/ أدخلُ/ لا شيءَ سوى باب آخر/ ياربّ/ كم باباً يفصلني عني – قصيدة أبواب ص 9 ...
والغناءُ العراقي، منذ الأزل، مسكون من عهد سومر واشور وأكد حتى أيامنا هذه بأنّات الشجن تصعد زفيراً وبكاءً وحسرات.. أو كأنين النواعير الغافية على ضفاف الفرات: بين القفص المملوء حبوباً/ والأفق الأجرد/ يصفّق طيرُ الشعر جناحيه/ بعيداً/ في الريح/ ولن يتردد – قصيدة حرية ص 61.
والنبرة الغنائية المشحونة بالشكوى لا يصاحبها صخبٌ أو جنون أو شعارات.. إنها تأتي كلوعة مكبوتة مهموسة: الجوعُ يمدّ مخالبه في بطني/ فالتهم أوراقي/ وأمشي/ واضعاً يديّ على بطني/ خشيةَ أنْ يسمعَ أحدٌ طحين الكلمات – قصيدة: وجبة ص 41 ..
ولا تكاد قصيدة من قصائده تفلت من هيمنة الوجع المرّ.. فالصائغ كأي شاعر من شعراء الدنيا, مأزوم، ومطالب بأن يكون أول سهم يصيب كبد الظلم ووضاعة المستبدين، وليس فرداً من شرذمة يلمّعون عروش السلاطين.. لذلك ترميه وترمي أمثاله ألسنةُ الشرّ بالتهم وتتالى عليهم الشتيمة ظاهرة ومبطنة: يملونني سطوراً/ ويبوبوني فصولاً/ ثم يفهرسوني/ ويطبعوني كاملاً/ ويوزعوني على المكتبات/ ويشتموني في الجرائد/ وأنا لم أفتح فمي بعدُ – قصيدة: تأويل ص 6 ..
وإذا كانت صفحات الديوان حاشدة بالغناء الموجع فثمة قصائد أخر مكرّسة للتصوف والهلوسة الذاتية تعمّق رؤيته الفلسفية الوجودية. ويحاكم بعقل وروية القضاء والقدر.. فيلغي الحواجز والأسوار بينه وبين الربّ ويخاطبه بلهجة الهمس والدعاء والعتاب الشفيف: هؤلاء الطغاة/ أصحيح يا ربّ/ أنهم مرّوا من بين أناملك الشفيفة وتحملتهم؟! .. ص 25 .. فمن حق المخلوق أن يخاطب ربّه في أيّما لحظة وفي أيّ وضع.. فالطريق إلى الله مفتوح وصدر الله رحب يسع كل شيء: نظر الأعمى إلى السماء/ وهتف بغضب/ أيها الربّ/ إذا لم يكن لديك طينٌ كافٍ/ فعلام تعجلتَ في تكويني.. قصيدة شكوى ص 34 ..
ومن غيرُ الربّ يسمع إلى أوجاعنا وشكوانا فيمتص سخطنا وكمدنا.. وإذ اذكر هاتين القصيدتين فثمة قصائد أخرى تنحو هذا المنحى الحلاجي أو السهروردي (تراجع قصيدة: الإله المهيب ص 87، وقصيدة: المحذوف من رسالة الغفران ص 133..)
وحين ننتقل من التصوف إلى القصّ والحكي نرانا داخل أنماط قصصية كثيفة الإيجاز تتوفر على شروط ومستلزمات القصة القصيرة جداً. وارى الصائغ متأثراً بالقصة القرآنية التي تضغط أحداثاً كثيرة ومعاني متباينة في عبارات موجزة ومقتضبة آسرة: قال أبي:/ لا تقصصْ رؤياك على أحد/ فالشارع ملغوم بالآذان/ كلُّ أُذنٍ يربطها سلكٌ سريّ بالأخرى/ حتى تصل السلطان: ص 12
إلا ان النبرة القصصية تصل أقصاها في قصيدة: رقعة الوطن ص 15 وسأنقلها دون أن أتقيد بشكلها الشعري:
"ارتبك الملك وهو يرى جنوده محاصرين من كل لجهات, والمدافع الثقيلة تدكّ قلاع القصر, صرخ: أين أفراسي؟/ فطست يا مولاي../ أين وزير الدولة؟/ فرّ مع زوجتك يا سيدي في أول المعركة.. تنحنحَ الملك معدّلاً تاجه الذهبي وعلى شفيته ابتسامة دبقة.. ولكنْ أين شعبي الطيب. لم أعدْ اسمعه منذ سنين؟/ فانفجر الواقفون على جانبي الرقعة بالضحك/ لقد تأخرتَ يا سيدي في تذكرنا، ولم يبقَ لنا سوى أن نصفق للمنتصر الجديد".. إنها بكلّ تأكيد قصة قصيرة لو لم يكتبها عدنان الصائغ لكتبها ابراهيم أحمد أو عبد الستار ناصر على سبيل المثال.فهي إضافة إلى بنيتها الفنية الباذخة لتنطوي أيضاً على كمٍ هائل من التأول والتفسير والدلالات.. وثمة قصائد أخرى تقترب أو تكاد تكون قصصاً قصيرة: قصيدة الحلاج ص 20، وخيوط ص 36، خيبات ص 37، الظل الثاني ص 92. أوراق من سيرة تأبط منفى ص 106، المحذوف من رسالة الغفران ص 133، وأستطيع أن أقول بلا حرج: إن الصائغ كان قصاصاً شاعرياً في جل قصائده من حيث تصاعدها الدرامي، وتلاحق الأحداث وتناميها ونقل المَشاهِد مرةً من خلال ذاته ومرة من خلال استنطاق الخارج. ويزدحم الديوان بلوحات شعرية تقترب من الحِكم والأمثال مشحونة بدلالات إنسانية عميقة: الربان المتردد/ بين السطح وبين القاع / يحسب كلّ رياح العالم/ غير مواتية للإقلاع – قصيدة بوصلة ص 63... كما أن الصائغ من خلال واعيته الثاقبة ذات الرؤية المجهرية أحياناً يودّ لو يرينا أو يوجّه انتباهنا إلى أشياء تتخبط أمامنا ومن حولنا دون أن نحسّ بها: مهما أثاروك أيها الغبار/ ستهبط إلى القاع حتماً/ بأسرع مّما علوتَ – قصيدة: غبار ص 65. فهل كان هذا الغبار الذي لم يثر انتباهنا مجرداً من أيّ دلالة أو إيحاء أو مضمون. وربّما يوازي هذا المثل مثل شعبي: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. لكن ارتفاعه الغبار وركوده لأعمق إيحاء من مثلنا الشعبي.. كما أن الصائغ في تكويناته يقدّم لوحات حكمية بليغة تنطوي وتنطبق على ما يجري في الحياة من أمور: ما الذي يعنيني الآن/ أيها الرماد/ أنك كنت جمراً – ص 67.
لم يعد في يدي/ أصابع للتلويح/ لكثرة ما عضضتها من الندم – ص 69
هل تتذكرنا المرايا/ حين نغيب عنها – ص 70، وكذلك تكتظ تنويعاته بمزيد من الصور تجري مجرى الأمثال:
لا وطن للشمعة خارج ظلالها – ص74 .. أقدامنا ارصفة متحركة – ص 75. في الفحم نار حبس، ص 76 .. وتذكرني هذه العبارة ببيت لأبي نواس:
كمن الشنانُ فيه لنا ككُمون النار في حجره
وقد انتبهتُ إلى هذه التشكيلات الصورية التي يعتمدها بعض الشعراء عند ادونيس أيامُ كان ينشر، في الثمانينيات، بعض كتاباته وقصائده في مجلة الكفاح العربي اللبنانية. وربّما استلهمها هو أيضاً من بعض الشعراء الفرنسيين والغربيين.. وثمة في الديوان بعض قصائد طويلة إلى حدّ ما يعّبر من خلالها الصائغ عن معاناته في جنبات منفاه.. ويستقدم لحظاتٍ من ذكرياته من داخل الوطن: دلفتُ إلى البار/ كان ورائي/ يمدّ مخالبه في ظلالي, وكان الوطن/ على بعد منفى وكوب من الشاي – قصيدة الظل الثاني ص 92 ومثلها قصيدة العبور إلى المنفى ص 102، حيث يفتّح كل نوافذه على ما حوله ليرى بمسامات جلده وشعره وأصابعه وثيابه..
ويرى الناسُ أيضاً جسده الضئيل الهزيل المتبقي من أيام الشجن والهلع والسجن: ستحدّق طويلاً/ في عينيَّ المبتلتين بالمطر والبصاق/ وتسألني من أي بلاد أنا....
ويسجل الصائغ في أطول قصائد الديوان يومياته حدثاً حدثاً، لقطة لقطة، ويتداعى إلى ما فات والى ما هو آتٍ آت:
أعضّ الكتب وأعضّ الشوارع/ هذا الفمُ لا بدّ أن يلتهم شيئاً ص 106 .. لم يجوّعني اللهُ ولا الحقولُ/ بل جوّعتني الشعارات/ والمناجلُ التي سبقتني إلى السنابل – ص 107.
سأحزم حقائبي ودموعي وقصائدي/ وارحل عن هذه البلاد/ ولو زحفت بأسناني – ص 109
سأقذف جواربي إلى السماء ، تضامناً مع الذين لا يملكون الأحذية/ وأمشي حافياً – ص 114. وهذه القصيدة الطويلة متخمة بالإحباط والقهر والنكص والرؤى الكابوسية والمشاهد السوداء: دموعي سوداء/ من فرط ما شربت عيوني/ من المحابر والزنازين – ص 117.. وفي الليل أخلع أصابعي/ وأدفنها تحت وسادتي/ خشية أن اقطعها بأسناني/ واحدة بعد الأخرى ، من الجوع أو الندم – ص 123.. ولعل اكثر ما لفت انتباهي وسيلفت انتباه القراء قصيدة: المحذوف من رسالة الغفران: يا سيدتي أريد رؤيته ولو لدقيقة واحدة/ ما من مرة طلبته وردّ عليّ/ أريد أن اسأله قبل أن أودع حياتي/ وقبل أن يضع فواتيره الطويلة أمامي/ يا الهي العادل أمن أجل تفاحة واحدة/ خسرتُ جناتِك الواسعة/ أمن أجل أن يسجد لي ملاك واحد/ لم يبق شيء في التأريخ إلا وركعتُ أمامه ص 133 – 134 واذا كنتَ حرمتني من دَم العنقود/ فلماذا أبحته لغيري/ - ص 137.. وتذكرني بعض أجزاء هذه القصيدة بقصائد عمر الخيام.
أشعر أن الصائغ في عدد من قصائد الديوان يحلق عالياً. يحملنا معه إلى علياء الشعر ليرينا فراديسه ومرافئ أحلامه بكل سطوعها وشموخها وايماضها وإعجازها وظلها ونورها، وحرّها بعيداً عن الفذلكة والتعقيد..
قصائده، جميعاً، تصبّ في خانة الحنين الى الوطن والى البراءة. والى الهواء الأنقى ولا أظن أنّ كلّ مدائن الدنيا في جنبات الغربة. بما تنطوي عليه من ازدهار حضاري وتقدم في مناحي الحياة تنظيماً وتنسيقاً وبرمجة بقادرة على تعويض المهاجر ما فاته.. إنه ليتمنى ليعود في يوم ما إلى أيام طفولته ومأواه التليد ويضع رأسه فوق ثرى مدينته وينام.. ينام هانئاً سعيداً أو ينام نومته الأبدية، وحبُ الوطن أنه مفجّر إلهامه. ومسقط رأسه ومستودع إبداعه.
 
البحث Google Custom Search