أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الإرهاب والخطاب المستتر

قراءة أولية في ثلاث مجاميع شعرية من داخل الوطن

د. ابراهيم اسماعيل
- السويد -

إذا كان الفن مدخلاً لاستجلاء الحقيقة، حقيقة الإنسان و الأشياء والعلاقات، فهو قوة جذب مركزية لكل ما هو جديد، تبصر به وتكشف عن جوهره وتجذب نحوه المتلقي مثيرة لديه أو مشهرة عليه الأسئلة ومنمية في آن حماسه للبحث عن إجابات. ولما كان الشعر أكثر الفنون استدعاءا للحرية كما يقول الشاعر الكبير سعدي يوسف، فهو يحدد بجلاء موقع الشاعر في ساحة العلائق بين القيد والهواء والحب والخراب، عند حالة تناقض تناحري مع القتل وتخريب الروح ، تقتضي منه مهمة عكس الواقع في ثنائية خاصة للسياسة والشعر، يؤدي أي خلل في توازن عنصريها الى تشوهها كاملة . إن السمة العامة لشعر السبعينيات والثمانينيات يمكن أن توصف بأنها شغل مكثف على اللغة وإيلاء التركيب عناية متميزة في مسعى للبحث عن بنية جديدة قادرة على أن تكون الواقع الآخر للواقع الاجتماعي المعاصر. لكن السؤال الذي يجد طرحه في تقديري مبرراً ، هو هل استطاع الشعراء حقاً صياغة هذا الواقع الفني بشكل يعكس حضوراً قائلاً ودالاً ؟!.
لقد نجح العديدون في إنجاز تراكيب هامة للصورة الشعرية، لكن عدداً محدوداً منهم تمكن من تجاوز ذلك ، فاستثمر هذا الإنجاز في التعبير عن الواقع الاجتماعي بإبداع، وكان من بين هؤلاء الصديق الشاعر عدنان الصائغ ، الذي تخلص من فخ الغرض الشكلي للشعر فأتجه نحو الواقع ، لا ليصيغه قراءات سياسية أو شعارات مباشرة كما فعل البعض بل ليبحث فيه أو في خارجه عن مفاتيح للجمال ، تلك التي بها فقط يصبح المرء مبدعاً . لقد طرحت قصائده ولا تزال بإرادة ووضوح مسألة حياتية محددة ، واتخذت دوماً موقفاً وخلصت لرؤية ، رغم أنها تباينت في عمق تلك الرؤية ، وبقيت في الأعم الأغلب ضبابية في التأشير لاتجاه الخلاص، ساعية ربما لتحقيق ذلك عبر إثارة الأسئلة .
ولعلكم تتفقون معي أن الشاعر الصائغ كان أكثر الشعراء إثارة للجدل في السنوات الأخيرة .. وقد تركز الكثير من ذلك الجدل حول ما إذا كان الصائغ شاعراً مجّد الحرب أم أدانها .. وإذا تجاوزنا الأصوات التي علت لأهداف شخصية جراء النجاح المتميز الذي حققه الشاعر في مساره الإبداعي وحصوله على جوائز عالمية أو تلك الأصوات التي دفعت لتشويه موقف الشاعر الذي صار صوتا قويا لمعارضة الدكتاتورية والخراب في العراق ومحاولة ثنيه عن مواقفه أو عزله كي لا تصل مساعيه الوطنية والشعرية الى مصبها الطبيعي، فأننا ندخل دائرة الحوار الموضوعي لنرى فيما إذا كان الصائغ شاعراً مقتنعاً بالحرب ومشعليها وأنه قد استفاق على خراب لم يكن ليدركه أو يراه فرفضه ونجا من كابوس مسببيه ليهاجمهم ويسعى لتخليص وطنه منهم . أم هو – منذ البدء - شاعر تفتح في غابة محترقة فأفترش الأوحال والتحف بسماء القنابل وتجمدت في عينيه الدموع آسى على الرحيل المتواصل للأصدقاء ، فكان لابد من مراوغة الوحش بخطاب مستتر ذكي ومتنوع، يوصل ربما شيئاً من الفكرة للناس ويعكس ربما بعضا من واقع عصي على التوصيف دون أن يطيح الرأس من بين الكتفين .
ورغم إني لا أجد في اتخاذ الكثيرين من مثقفي العراق للموقف الأول، من ضير الآن مادامت أرواحهم قد تطهرت بالإبداع فأبصروا الحقيقة بعد تشوش، غير أني ومن خلال قراءة متأنية للدواوين الثلاثة  التي أصدرها الشاعر في العراق وأعني بها ( العصافير لا تحب الرصاص، سماء في خوذة، و غيمة الصمغ ) أكاد أجزم بأنه كان يتبنى الموقف الثاني .
لقد عمدت الدكتاتورية ، بغية تمرير حروبها القذرة الى وعي المواطن ، لثلاثة سبل هي القمع والمال والفكر . وكان طبيعياً أن تسخر وبنجاح في أحايين كثيرة العديد من مثقفي شعبنا ولأسباب مختلفة لتحقيق السبيل الثالث ، باعتباره شرطاً يوفر للحرب مشروعيتها وقدسيتها بل وضرورتها للحاضر والمستقبل. وأنشأت وضعية فاسدة تتميز بتبسيط غائي للمفاهيم وتوظيفها لخدمة جهاز القمع وشخص الدكتاتور باعتباره وريث الأنبياء والفارس المنتظر، والضرب على أوتار الشوفينية وكراهية الشعوب الأخرى وتمجيد البراغماتية ، واحتقار القيم الإنسانية كالحب والجمال والشهامة باعتبارها صفات ضعيفة، وتقديس الحرب كسبيل لبعث الأمة والموت كمفردة مجردة وتعلم لغة التذلل والتزلف والمديح والتكسب ( تقول مجلة فنون عام 1980 : لقد مارست القصيدة العربية دورها في عصر التكسب.. الذي ينتمي الى وطن ، لا يخجل من التغني به ضمن إطار المناسبة ، إن ذلك في الترتيب النفعي لا يدخل ضمن التكسب) ، فكيف كان موقف عدنان الصائغ من ذلك كله؟!
لقد ولد عدنان الصائغ في بيئة فكرية نشطة وحساسة للتجديد والتغيير، هي أقرب للريف منها للمدينة، فتعلم الوفاء للبيئة والبشر. وحين انتقل الى المدينة أرادها كما يقول عنه الشاعر الشهيد رشدي العامل أليفة وساقية وبستاناً، فشن هجوماً من الحب والق الصدق.. وراح يفتش عن المألوف والإنساني من الحياة ويحولها الى قيم شعرية، لفتت اليه أعين القارئ العادي الذي راح بشعره هذا يتحسس المألوف. ولم يحمل نصه ابتذالا رومانسيا بل روحا رومانسية عالية الصفاء.. أتقن القصيدة اليومية التي تستمد طابعها، شكلا ومضمونا وطريقة طرح وزاوية نظر مما هو يومي فعلا ( الشوارع، الباصات، الأصحاب، النساء، الصحف، الشرفات، المصطبات، المدن ..الخ). وقد قال عنه الناقد عبد الجبار البصري ( انه شاعر حقيقي قادر على أن يبرهن أن القصيدة اليومية جديرة بالحياة وجديرة بالحب والإعجاب ) . كما أتقن القصيدة القصيرة ذات الضربة الأخيرة أو القفلة:

"كلما كتبت اسم الجنرال
صرخت الورقة
أنت توجعني أيها الشاعر"

وخذ مثلاً:

"قبل أن يكمل رسم القفص
فر العصفور
من اللوحة"

وخذ مثلا:

"انطفأت أضواء الحانة
وانطفأ العالم
لكن الرجل المخمور
ظل يدور
بحثا عن سبب واحد
يوصله … للبيت"

كما أتقن الصائغ أسلوب البناء القصصي الدرامي المتصاعد ، وبنى سيناريوهات ذكية ومنلوجات درامية.. وفيما كان يدور في هذا الحقل قاطفاً زهوراً عاشقة وحالمة يزين بها قميصها وراسما في شفق بهي مرايا لشعرها الطويل، وقعت الحرب فاقتيد اليها مرغماً.. كانت الصاعقة قد زلزلت كيانه، وانتشرت كالطحالب قصائد الخطابة التي تمجد الحرب والدكتاتور وأقيمت لها المهرجانات ودارت المطابع لتخرج للناس مخدراً واحداً يدفعها للمحنة بلا وعي .. في البدء اقتادوه لإسطبل كان أنموذجا لما أرادوه للوطن، ففرش أوراقه وحاول أن يكتب بهدوء فلم يستطع، فراح يشن حربا شعرية على الحرب كما يقول عنه الناقد علي حيدر، فصار عن وعي أو غير وعي شاعر الحرب.. في دواوينه الثلاثة آنفة الذكر ترد إحدى مفردات الحرب كالقذائف والرصاص والمدافع والشظايا و الخنادق والسوا تر والجنود والعريف والموت والتوابيت في كل صفحة تقريبا – والتي تصل الى 45 مفردة في قصيدة خرجت من الحرب سهواً-، ففي العصافير لا تحب الرصاص وردت 30 مرة بمعدل مرة في كل قصيدة وفي سماء في خوذة 70 مرة بمعدل ثلاث مرات في كل قصيدة وفي غيمة الصمغ 69 مرة أي بمعدل مرتين في كل قصيدة! بل راح يستعير هذه المفردات في التعبير عن معان أخرى:

سأفتح مشجب قلبي لكل حماقاتكم
نهار القصيدة تشطبه الطائرات على لوحة الأفق
في بريد القذائف
في بريد المعارك
حيث المذيع يغمس بالحرب كعك الصباح

عايش الصائغ الحرب في خنادقها وسواترها المتقدمة وتلمس بحرفية التعبير بشاعاتها، فأصبحت همّه اليومي وصارت له فيها رؤية سياسية – اجتماعية حققت فردانيته!
لم تمتدح قصائد الصائغ الحرب كما كان مطلوباً رسمياً ، ولم تمجد بطولة أحد، ولم تصف معركة، ولم تتحدث عن يوم من الأيام التي جعلها النظام مقدسة بسبب أحداث الحرب، ولم ترد فيها كلمة النصر أو روحه ، ولم تحرض على القتال.. بل على العكس فقد عكست القصائد الوجه الحقيقي والبشع للحرب، وآشر بجلاء لنتائجها المدمرة وخاصة ما تركته في تهشيم النفس العراقية، وطالب بإيقافها، وراح يتساءل عن جدواها ولماذا وقعت أصلا ..
وسأحاول أدناه أن اذكر أمثلة من الخطاب المستتر وأحيانا شبه المباشر للهمس من وراء الحاكم عن الجريمة والخراب معتمداً على الدواوين الثلاثة والتي صدرت في العراق :

ديوان ( العصافير لا تحب الرصاص ) 1986 بغداد:

في هذا الديوان ورغم أن عدنان الصائغ كان لا يزال مؤمنا بالحكمة التي اختتم فيها الديوان :

"في ضجيج الطبول
لك أن تنتحي جانباً
وتؤجل ما ستقول"

والتي انعكست على قصائده المكتوبة بين 1983 – 1985 الا إن للمقاومة الهامسة مكانها الواضح:

ماذا جنيت من الشعر قال المفوض لي، والفتاة الأنيقة .
أي بلاد تعرف حجم حنينك في هذا القبو المظلم
تعرف أن الشرطي في ساحات العالم
يبقى اكثر ظلاً من كل الأشجار
لماذا لا تفتح بعض المدن الحجرية
غابات للعشاق
وتفتح – كل صباح – زنزانات أخرى

في قصيدة تمرين لكتابة قصيدة يشير الصائغ بوضوح للخطوة المستحيلة في ظل الإرهاب، فـ في زحمة الحرس المدجج بالشتائم، في الليالي الكالحات بلا بصيص، في أغانيك الحزينة خلف نافذة القطار…تبقى خطوته وحيدة في الطريق ويبقى يبحث عن خطاه المستحيلة ص 18.
وفي قصيدة ( ليست هي مرثية.. لي) يكون الوطن غربة موزعة بين الفنادق والخنادق، ولهذا فلا حلم في زمن اللوعة المستعارة ، والأسّرة التي هي شبه وطن غربتنا ففي كل يوم منفى وجوع ، لكن رغم هذا لا بد من التمسك بالصدق كالجمر:

فنم في عراء الرصيف
التحف حلمك الشاعري
و لا تستدن حلماً أو سريراً ذليلاً من الآخرين

ديوان ( سماء في خوذه ) 1988 بغداد:

رغم إن هذا الديوان اعتبر من دواوين المعركة ، الا انه سحب من الأسواق بعد صدوره لأنهم شعروا من انه لم يكن ديوانا للتحشيد والمعركة وإقناع الناس بالحرب كوسيلة وأسلوب حياة وكدفاع عن الحياة ذاتها كما كان النظام يصورها . لقد ضم هذا الديوان دعوات واضحة لإيقاف هذه المهزلة المأساة:

- شرقنا معاً بالدم المتدفق
من يوقف الدم
من؟

وامتلأ الديوان بما يبشع الحرب ونتائجها ، وخذ مثلا بائعة التذاكر والجندي الذي قطعت الحرب أصابعه:

ربما علمتها القذائف إن الأصابع – في الحرب – مثل التذاكر

وعن الإرهاب نذكر مثلاً:

تحاول أن تنتقي وطنا للجنون
فيفاجئك الحرس الصلفون
ينامون بين قميصك، والنبض

وعن اغتيال الحلم نذكر:

أذكر كنا نجوب الشوارع
نحلم في وطن بمساحة كفي وكفك
لكنهم صادروا حلمنا
ها أنا الأن أنظر من شق نافذة
للشوارع
وهي تضيق
                تضيق
                     تضيق
                      فأبكي

وينتقل الخطاب من الاستتار الى شبه الوضوح في القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها:

قال العريف: هو الموت لا يقبل الطرح والجمع
فأختر لرأسك ثقباً بحجم أمانيك
هذا زمان الثقوب
أو فأهرب الآن .. من موتك المستحيل
لا مهرب
هي الأرض أضيق مما تصورت
      أضيق من كف كهل بخيل

وحين ينطبق وجه الأفق يستصرخ الشاعر الوطن:

يا سماء العراق .. أما من هواء
تلفت
كانت سماء العراق مثقبة ً بالشظايا

وعوضاً عن الحديث عن الشهادة والبطولة والجندي الذي حولوه من أبي خليل الى أبي تحرير ، وصف الصائغ الضحايا:

في بريد القذائف
أوزع قلبي على الأرصفة
وأنتظر العائدين من الموت في عربات الصدف
إن القنابل تقتسم الأصدقاء

وراح الصائغ يسخر من المداحين ومن التمجيد الزائف للحرب فكتب:

دخل الشعراء "….." الى القاعة ( يمكن لك أن تضع الصفة المناسبة في الفراغ )
وأكتظ الحفل
لكن الشعر‘ غريباً ظل أمام الباب
بملابسه الرثة يمنعه البواب

وخذ مثلاً:

يبدأ الوطن – الآن – من جملة
نصفها مضغتها المطابع
فالتمسي قي دمي كلمةً لا يشوهها أحد
أغني بها وطني


حتى يصل الى التعريف بالندم، فالحرب التي ظنها النظام نزهة ستقطع كف طفولتنا إصبعاً إصبعا، لكن غرور المقاول يضخنا لمساطرها :

وإذ تستجير طيور الحنين
بأعشاش أحزاننا
سوف نبكي على حلم ( أو وطن )
                              ضيعوه فضعنا .

وفي عالم القادسية " المجيدة" يقول عدنان بوضوح:

أنا أكثر حزناً منك
لكني لا أرتدي ثياباً سوداء
بل قصائد سوداء .

ديوان (غيمة الصمغ) 1993 بغداد :

تتواصل القصائد محملة بدخان حربين خاسرتين كانت الثانية أبشع من سابقتها في الأسباب والتفاصيل والنتائج ، وترى القصائد منكسرة ومؤلمة ( راجع مرايا متعاكسة مثلاً ) ، كما اتضحت فكرة الرحيل كخلاص فردي:

أقول وداعاً
أو: أغني غربتي

وخذ:

ها هو قلبي يدثره صقيع يديك في البلد الغريب

لكنه يتململ في قصيدة دبق فيشير الى: نشرة التعب التي تخفي آخر القتلى، التدافع بالمناكب للمناصب، الشعارات التي بالت على سروالها في غرفة التحقيق ،
وأخيراً: ما تبقى من فواتير الحروب ، غداً تسدده جراحات الشعوب.
ويتوج التململ بقصيدة خرجت من الحرب سهواً والتي شكلت هبة ضد مسعى الخلاص الفردي . وحقاً كان الصائغ أخطر شعراء الحرب، لأنه عاشها مؤرخا لتأريخها السري عكس شعراء المديح الذين زوروا هذا التاريخ.
لقد ولد عدنان الصائغ وكبر في جراح الأرض، وشكل طعم الخبز وطعم الدم الذي تذوقهما ، نسغ حبه وغنائه،  والقوة التي رسخت جذوره وفتحت لبراعمه المدى نحو الشمس والهواء ، رغم أنها لم تعطه الفرصة لتكون في قصائده محطات استراحة يحتاجه القارئ كحاجة المحارب لها ، وهو ما عبر عنه الناقد د. عبد الرحمن الكيالي حين قال (ينتهي ديوانه ولا تنتهي أوجاع القارئ ولا دموعه ولا إحساسه بمأساة ما أرتكبه الطغاة في تاريخ البشرية).


(*) نشرت في مجلة "تموز" ع 15  خريف 2000 - السويد
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا (عدد خاص - الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search