أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
ما وراء الأفق:

(3)
هل يحق للشاعر الحديث
أن يكتب قصيدة غزلية؟

عبد الجبار داود البصري

هناك مقولة تقرر أن حراثة أرض حرثها ألف إنسان من قبل عملية سهلة يسيرة ولكن كتابة أغنية في موضوع غناه ألف شاعر من قبل عملية شاقة وصعبة.
وربما قيل أن هذه المقولة تنطبق أكثر ما تنطبق على القصيدة الغزلية التي يكتبها الشاعر الحديث فقد تغزل بالمرأة آلاف الشعراء من أجيال وعصور متعددة. ذكروا وصلها وصدودها، وسحرها وجمال قوامها عضواً عضواً، واشتاقوا إليها وحلموا بها ولم يغفلوا أية شاردة وواردة ذات صلة بها.. فما الذي أبقوه له وأي صقع من أصقاعها لم يكتشف بعد. وأي عتمة لم تطفأ وأي الكواكب وأي الزهور لم تقطف من أجل عينيها؟

وفي رأيي أن قصائد الحب لا تعبر عن المرأة تعبيراً موضوعيا.. أنها تعبير عن ذات الشاعر المحب ومواقفه وعواطفه قبل أي شيء آخر ولهذا السبب فليس متوقعاً أن يقفل باب الاجتهاد في هذا المجال، ولا أن يستكمل المحبون بوحهم ويكتفي اللاحقون بما كتبه السابقون.. لأن لكل عصر شعراءه ولكل منهم أصالته ومواقفه ومشاعره وليس من المنطق أن نحجب حق هذا الشعر أو ذاك في التعبير عن ذاته استناداً إلى كثرة ما كتب من قبل فما كان ليس أبدع مما سيكون.

ويخيل لي أن تنوع وظائف المرأة واختلاف صورها ومركزها القانوني من جيل إلى جيل آخر، ومن عصر إلى عصر آخر، ومن قطر إلى قطر آخر – فوظيفتها ومركزها في ظل الإقطاع غير وظيفتها ومركزها في ظل الاشتراكية، ودورها في أوقات السلم غير دورها في أوقات الحرب – يقابله مثل هذا التنوع في الوظيفة والرؤية والأهمية في عالم القصيدة.

ولو لم يكن مثل هذا التنوع وارداً لاكتفينا بليلى بديلا عن هند ومي وعزة والرباب وعائشة. ولما كان من حق الشاعر عدنان الصائغ أن يكتب أكثر من قصيدة عن (ميم) الكوفية وعن بدلتها المدرسية الزرقاء وظلال النخيل والنارنج وجسر الكوفة.

في هذه القصائد لا يذكرها الصائغ بالاسم ويكني عنها بأول حرف منه فكأنه من أتباع نظرية البعد الواحد الذين يضعون لكل حرف منزلة في معراج الروح.
أما رؤية عدنان الصائغ لميم فهي رؤية تلفزيونية.. والمعروف أن نجوم التلفزيون قريبون من المشاهدين بحيث يخيل لكل مشاهد أنه قادر على أن يمسك بهم بينما يفصلهم عنه حسب قربه وبعده عن محطة البث أمتار قليلة أو آلاف الكيلومترات.

وإضافة إلى ذلك فان أغلب نجوم التلفزيون رؤوس مقطوعة تتكلم.. وهذا ما نعرفه عن المرأة في قصائد الصائغ فلم يتجاوز التحديث في عينيها وضفائر شعرها. وهي قريبة منه بعيدة عنه. ويمكن ملاحظة ذلك في المقطع الآتي:

"لعينيك يا ميم تصدح كل العصافير في الغابة المورقة
إن قلبي على غصن ميم يغني
يكون دمي نسغه.. زهرة عابقة
نبضة نبضة
ويطلع من جذوة الأرض غصناً من الحلم
غصناً من الضوء
غصناً من اللهفة الصادقة
والندى.. يا ندى.. يا ندى..
تساقط على شعرها
قطرة.. قطرة رائقة
ولوّنْ جدار الحديقة..
"بلل" ضفائرها
"بلل" دفاترها..
أنا حارس الغابة العاشقة"
- ص 89 -

ففي هذا المقطع كما في سواه لم يذكر سوى عينيها وضفائرها، ويوحي بأنها قريبة منه والبعد بينهما شاسع بعد ما بين شمال العراق وجنوبه.

وللمرأة في قصيدة الصائغ وظيفتان.. الوظيفة الأولى أنها وسيلته لاستحضار الصور الطبيعية الجميلة التي ألفها في طفولته وصباه كالفراشات والنخيل وأشجار النارنج والورود والجداول والنوارس وما شابه ذلك:

"هي الأرض.. إذ تتفتح بالعشب
والأقحوان
وتلبس لون المدى
وفي الفجر تأتي طيور النوارس قبل انثيال الضياء
تموج بلون الندى
يبارك أنهارها الشهداء
هو الجرح ذا.. يتفتح بالورد
والوعد يصبح لافتة
طلقة ثائرة
وطنا للعصافير والفقراء
يبارك آلامه الشعراء
- ص 87 -

والوظيفة الثانية أنها تهيء له مناسبة للتعبير عن وطنيته وحسه القومي والتغني بجماليات العراق.. إلى الحد الذي تتحول فيه إلى رمز ويتحول الالتصاق بالأرض إلى نوع من عشق التمائم كما يقول علماء التحليل النفسي..
ففي المقطع الآتي يعبر عن حبه للمرأة بقدر ما يعبر عن تعلقه بكل ما يمت لها بصلة.

"أحب الشوارع .. يا ميم
كل الشوارع .. تلك التي مشطتها مع الليل أقدامنا
الضائعة
أحب المقاهي.. جميع المقاهي
وحيث جلسنا نثرثر في كل شيء..
ونشرب قهوتنا في انتشاء
أحب الحدائق.. كل الحدائق
حيث ركضنا وراء الفراشات
أحب الشجيرات.. كل الغصون التي ظللتنا
بأفيائها..
أحبُّ.. لأني أحبكِ
ص 123 – 124

ويمكن اعتبار قصيدة "سلاماً يا جسر الكوفة" (ص33 – 36) من بين أجمل قصائده الغزلية التي تجسد كل المعاني السابقة وأشعر أن بيني وبينها أكثر من وشيجة حب.. وفي حين أجد في قصيدة ميم (ص 153 – 154) ما ينفرني منها وبخاصة اضطرابها الموسيقي.. أما عن بقية قصائد الديوان التي تعبر عن المناسبات السياسية أو ترسم نماذج بشرية.. فليس ما يميزها عن غيرها سوى مناسباتها.. ويخيل لي أن الشاعر لم يحالفه التوفيق فيها كما في قصائد المعاناة، والمعركة والمرأة.
أن عدنان الصائغ شاعر حقيقي قادر على أن يبرهن على أن القصيدة اليومية جديرة بالحياة وجديرة بالحب والإعجاب.


(*) نشرت الحلقات الثلاث في صحيفة "الجمهورية" – بغداد/ 1985
 
البحث Google Custom Search