أضواء
فيفيان صليوا لـ(الزمان): شدة ولعي بالشعر تسقطني في لحظات صوفية نادرة
حاورها: عدنان حسين أحمد
استطاعت الشاعرة العراقية فيفيان صليوا، وفي وقت قصير نسبياً، أن تستقطب اهتمام عدد غير قليل من الشعراء والنقاد العراقيين الذين كتبوا عن تجربتها، وأشادوا بموهبتها الشعرية مثل حاتم الصكر الذي أشار إلي (فرادة تجربتها الإبداعية، وتميّزها في المشهد الشعري التسعيني). جاء جلُّ قصائدها مموهاً بطابع الحزن العميق الذي ينفذ إلي أعماق النفس البشرية، وبالذات في ديوانها الأول (أحزان الفصول) الصادر عن (دار المنفي) في السويد عام 1997. أما ديوانها الثاني (أطيان) فقد تخلص من غلواء سمته التراجيدية لينفتح علي آفاق فنية تجاوزت حدود الذات إلي الموضوع. تقنياً يمكن الإشارة إلي أن فيفيان تكتب نصوصاً شعرية شديدة التركيز، بل أنها مختزلة إلي أقصي حدود الاختزال، لذلك فإن العديد من قصائدها القصيرة الخاطفة تقترب من مناخ الحكمة أو القول المأثور (عشر الكآبة للعالم/ وتسعة أعشارها لنا) أن فيفيان تتسيّد في هذا النمط من الكتابة علي قريناتها من الشواعر العراقيات، وأعتقد أنها سوف تحفر اسمها جيداً في ذاكرة المشهد العراقي المعاصر إن هي استمرت بهذا الزخم القوي في القراءة، والتأمل، وإطلاق المخيلة إلي أقصاها. في أمستردام حلّت علينا فيفيان ضيفة خفيفة الظل، تحاورنا فيها علي مدي ثلاثة أيام في أبعاد تجربتها الشعرية والحياتية، وقد انتقينا من هذا الحوار المطوّل بعض المحاور التي تستحق الرصد، والتمثّل، وإطالة النظر. وفي الآتي نص الحوار: û هل تتذكرين اللحظة الأولي التي هيمنت فيها عليك هاجس الشعر، وتلبسك إلي الحد الذي أجبر مخيلتك إلي الانقطاع إليه دون بقية الهواجس الإنسانية التي ندور في فلكها جميعاً؟ ــ في سن الخامسة عشرة كتبتُ أول نص شعري عندما كنت أقيم في السويد. وأنا أعزو سبب الكتابة إلي تراكم المآسي والفجائع التي تعرضت لها عائلتي، وبلغت ذروة معاناتي حينما تم إعدام جدي وجدتي، وعماتي الأربع، وعمي وزوجته وطفلته التي لم تجتز شهرها الرابع. ولولا هذه الفاجعة الكبيرة ربما لم أفكر في كتابة الشعر، هذا الزائر الجميل الذي حلّ فجأة، وغيّر مجري حياتي، ولا أظنه سيغادر روحي أبداً. كنت أحلم أن أكون رسامة، أو ممثلة، أو شخصية برلمانية. الشعر فتح لي آفاقاً عديدة، وجعلني أنفّس عن الهموم التي تُثقل كاهلي فأنا أشعر دائماً أن (الأرض مقوّسة، ووراءها أرواحنا تتحدّب). الشعر فضاء حر لا تؤطره حدود معينة. في البدء كنت أشعر أن القصيدة هي التي أدخلتني إلي غرفة كثيرة النوافذ، متعددة الإطلالات. وبعد فترة وجيزة شعرت أنني إنسانة حرة، طليقة، تروم التحليق في السماء الصافية الزرقاء لكي تمطر علي الناس فرحاً ومسرّة. إن أول قصيدة كتبتها في حياتي كانت أشبه بحبة فيتامين أتناولها لأسقط في عالم اللاوعي. إن جسامة المعاناة العراقية جعلت الحجر يخرج عن طوره وينطق، فكيف للإنسان أن يصمت؟ الورقة شيء مقدّس بالنسبة لي لأنها تساعدني علي تحمّل أشياء ثقيلة لا أستطيع أن أحملها. الورقة مشروع للكلام المؤجل الذي قد ينفجر علي حين غرة بعد أن يخرج عن طور السبات، والصمت، والخشية من أوهام الاحتمالات. منذ تلك السن المبكرة، وإلي الآن، وربما إلي أجل غير مسمي سأظل معلّقة بهاجس الشعر الأخاذ. û هل قرأت لشعراء عراقيين وعرب، وهل ساهموا في ترسيخ تجربتك الشعرية؟ ــ قرأت لعدد من الشعراء العراقيين والعرب، أذكر منهم بدر شاكر السياب، وسركون بولص، ولميعة عباس عمارة، ومحمود درويش، والأب يوسف سعيد، وعدنان الصائغ، عبد الكريم كاصد، وكاظم السماوي. هؤلاء الشعراء أحب تجاربهم الشعرية، ولكنني في حقيقة الأمر لم أتأثر بأي واحد منهم، ليس غروراً أو تعالياً علي أحد، فهم أساتذتي بحق، لكنني أميل إلي خلق بصمة خاصة بي، وكما قلت لي أنت أكثر من مرة بأن قصائدك لا تشبه إلا خالقة النص فيفيان صليوا. û هل تعتقدين أن مهمتك كشاعرة هي إثارة الأسئلة التي تؤرق الوجود برمته، أم أنها متعة جمالية خالصة مثل سواها من الحقول الإبداعية الأخري التي توفر للكائن البشري إمكانية التحليق في مدارات النشوة، أو الانغماس في مدارج الحلول؟ ــ أنا منهمكة حقاً في إثارة بعض الأسئلة الوجودية المقلقة، لكنني غالباً ما أقترح جواباً أو حلا مقنعاً. فلدي قصيدة قصيرة، خاطفة تقول: (يجمعنا شيء، أهو الموت؟). أنا أتناول موضوعات وجودية من دون قصد مثل الميلاد، والموت، وما بينهما من حياة سعيدة أو تعيسة. والقصيدة، كما تعرف، تأتي من دون موعد، ولا تترك لي الخيار لتحديد المسار. وعندما أنتهي منها أكتشف أنني تناولت موضوعاً كبيراً يشغل ملايين الناس ربما. وفي أغلب الحالات أنا أكتب لكي أحقق متعة شخصية خالصة، وعندما أمسك بأطراف هذه المتعة أشعر أن القارئ سوف يصاب بهذه المتعة، ويتألق بسببها. ومن شدة ولعي بالشعر الحقيقي الذي يهز المشاعر، ويؤجج الأحاسيس أسقط أحياناً في لحظات الحلول الصوفي النادرة. û تميلين إلي كتابة النصوص الشعرية القصيرة المكثفة التي تختزل الإسهاب الإنشائي. هل هناك سبب فني يدعوك لكتابة هذا النمط الشعري المركز، وكيف تنظرين إلي القصائد الطوال التي تتسع إلي الموضوعات الوجودية الكبيرة؟ ــ القصيدة القصيرة بالنسبة لي تشبه شهاباً أو نيزكاً حينما يسقط بشكل خاطف، سريع. هذا الذيل المشتعل الذي يهوي من أعالي السماء يبقي في الذاكرة ولا يغادرها بسهولة، بل يظل يلتمع مع الزمن، حتي وإن غاب فإنه يظل في حالة كمون مرشحة للانقداح والتشظي واللمعان من جديد. القصيدة القصيرة بالنسبة لي تشبه شجرة صغيرة شديدة الحيوية والاخضرار. أنا اشعر أن الشجرة الصغيرة تقول أشياء كثيرة، وتقترح مخيلة مغايرة للناظر الذي يعرف كيف يستمتع بهذا الجمال الأسطوري، بينما الشجرة الطويلة تبدو مترهلة، وباعثة علي الرتابة والملل، وأكثر من ذلك فأنا اشعر أن الشجرة الطويلة تبعث علي الشعور بالنهاية والانغلاق، بينما تظل الشجرة الصغيرة أو النبتة المتفتحة تواً مشروعاً لمخيلة متفجرة تنطوي علي عدد لا نهائي من الصور الجميلة المدهشة. û في ديوانك الأول (أحزان الفصول) ثمة صدق عالٍ يعكس تجربتك الذاتية العميقة، بينما اتسع ديوانك الثاني (أطيان) لتجارب خارج حدود الذات بحيث باتت قصائدك تزدان بصور شعرية عميقة الدلالة، واسعة المضمون. كيف تفسرين هذا التحول الفني في بنية النص الشعري الذي تكتبينه؟ ــ ان الصدق الذي تتحدث عنه في ديواني الأول (أحزان الفصول) نابع من تركيزي الشديد علي ذاتي بوصفها كائناً بشرياً مرهف الحس. حاولت في هذه المجموعة ومن دون إرادتي أن أصوّر للقارئ وقع الكارثة المرعبة التي حلّت بأسرتي، وإزاء هذه المحنة لابد أن أكون صادقة لكي أعبّر عن الحقيقة من كل جوانبها. وفضلاً عن ذلك فإن الشاعر في ديوانه الأول غالباً ما يعكس تجربته الذاتية علي الأصعدة الأخري وبالذات العاطفية منها، ولكنني عندما نضجت ذهنياً، وتمرنت علي كتابة النصوص الشعرية بدأت ابحث عن منافذ جديدة لقصيدتي، فلذلك كتبتُ موضوعات شعرية فيها من الصور الجذابة ما يلفت انتباه الشعراء والقصاصين المعروفين الذين تناولوا بعض قصائدي بالدرس والتحليل والنقد المنهجي مثل الشاعر عبد الكريم كاصد، والقاص إبراهيم أحمد، والناقد غالب الشاهبندر، والناقد حاتم الصكر، وغيرهم من النقاد والأدباء والقراء الذين أثنوا علي تجربتي الشعرية. û تعتمد قصيدتك علي بنية التناقض والتضاد والمفارقة الصادمة التي تدهش المتلقي. هل تتعمدين هذا الأسلوب في كتابة النص الشعري، أم أن هذه البني تأتي عفو الخاطر أثناء الاسترسال في عملية الكتابة؟ ــ أنا لا أتعمد كتابة القصيدة وفق أسلوب مسبق أو قالب شكلي محدد، وإنما ينبثق الأسلوب من رحم الموضوع الذي أتناوله، لكن المفارقة التي أشرت إليها تأتي من حدة التناقض الذي يرد في متن النص. أنا أعرف سلفاً أن اللعبة الشعرية تحتاج إلي الإفادة من التضاد اللغوي الذي يأتي ضمن سياقات دقيقة مؤثرة. أن القصائد التي لم تكتب بعد هي أشبه بالأسماك التي تسبح في البحر، وأن الشاعر المبدع هو الصياد الماهر الذي يحاول اصطياد أكبر عدد ممكن من الأسماك، ولكنه في الوقت ذاته لا يعرف لون أو شكل السمكة التي سيصطادها، قد تكون سمكة عادية عابرة لا تبقي في ذاكرته، وقد تكون سمكة ملونة مدهشة تحمل في جوفها خاتم سليمان السحري. المهم في هذه العملية هو الاصطياد، لكن الشكل والنوع هما أشبه بالسر الذي يظل غامضاً، ومثيراً للترقب والفضول. û ما هي الأسباب الكامنة وراء هيمنة الحزن في قصائدك علي الفرح والمسرات الحياتية الأخري؟ ــ الحزن هو سمة إنسانية، لكنه قرين الناس المعذبين، والمنكسرين روحياً بسبب فقد الأحبة من الأهل والأقارب والأصدقاء. وأنا فقدت عدداً كبيراً من أفراد عائلتي إلي درجة أن الحزن عليهم قد بات جزءاً من جسدي أو تكويني الشخصي، ولا مفر منه إلا مؤقتاً. الإنسان الحساس الذي يفقد ذويه لا يستطيع أن يفرح بعمق، ولابد لهذا الفرح أن يتهشم إذا ما تذكرهم فجأة. لهذا السبب لا أستطيع أن أكرس حياتي للكتابة عن الفرح وأخدع القارئ وأنا حزينة جداً في داخلي، وربما لهذا السبب فإن كتاباتي صادقة جداً. في واحدة من قصائد ديواني الجديد (أطيان) قلت إن (عشر الكآبة / للعالم / وتسعة أعشارها لنا). û لماذا اخترتِ مفردة (أطيان) عنواناً لمجموعتك الشعرية الثانية، وهل تعتبرين العنوان مفتاحاً لطلاسم النص الغامض؟ ــ بصراحة تامة لم أجهد نفسي في اختيار العنوان. هكذا نزل عليّ فجأة من السماء، فمثلما أكتب اسمي ببساطة تامة علي ورقة بيضاء كتبت مفردة (أطيان) واكتشفت أنها الكلمة المناسبة لكل النصوص الموجودة في الديوان. كلمة (أطيان) كما تري فيها شيء صادم، ومدهش، وغريب. وحينما يدخل القارئ إلي مكتبة عامة يلفت نظره هذا العنوان أكثر من أي عنوان عابر. وأنا بطبيعتي الشخصية أحب العناوين غير المطروقة، وغير المستنفدة، والتي تصدم القارئ، أو تبقي في ذاكرته علي الأقل كشيء طازج، وجديد، ومستفز. û بوصفك شاعرة آشورية عراقية، هل تفكرين باستثمار القصص والحكايا والأساطير الآشورية في نصوصك الشعرية القادمة؟ ــ العراق بلد حضارات متعددة، سومرية، وأكدية، وبابلية، وآشورية. وفيه غني من القصص، والحكايا، والأساطير الكثيرة. وفيه موروث حضاري كبير، لكن كتابة النص الشعري من وجهة نظري لا تتقصد الذهاب إلي حضارة ما، فحتي لو كنت آشورية فإن النص الشعري هو الذي يقودني، وليس الموروث الآشوري مع اعتزازي الكبير به. ربما لأنني أسعي لكتابة نص شعري إنساني، عالمي، يتجاوز الحدود المحلية إلي النطاق العالمي. في ديواني الأول ثمة إشارات خاطفة إلي الموروث الآشوري لكنها لا تتجاوز بضع كلمات مثل (عربات آشور) وربما أحاول الإفادة في المستقبل من بعض الأساطير التي أراها مناسبة للنص الذي أكتبه.
جريدة (الزمان) - العدد 1457 - 20/3/2003
|