محمد مظلوم: الغموض المتعمد نوع من الدجل الشعري
حاوره حاكم عقرباوي الوطن القطرية
بدأ الشاعر محمد مظلوم بنشر قصائده في الصحافة العراقية والعربية مطلع الثمانينيات‚ ومظلوم شاعر واضح الاجتهاد في العناية بقصيدته‚ بأشكالها المتعددة‚ يؤمن بتجاور وتحاور الأشكال الشعرية التي انجزها تاريخ القصيدة العربية‚ كمايقول في هذا الحوار‚ لذلك فهو يفهم التجريب الشعري‚ الذي ينتهجه‚ على انه الحرية التي يمكن بها ايجاز تعدد الأشكال الشعرية في قصيدته‚ صدرت له خمس مجموعات‚ هنا حوار معه: لنبدأ من قصيدتك الأخيرة أندلس لبغداد فرغم انك اعتدت كتابة القصائد الطويلة نسبيا لكن ألا تعتقد ان القصيدة الطويلة ــ ربما ــ تدخل الشاعر‚ أحيانا الى العادية والسرد‚ الذي لا يخدم فنية القصيدة؟ ــ لا أدري ان كان هذا السؤال مجرد توصيف عام للقصيدة الطويلة‚ أم انه يتصل بالذات بقصيدتي أندلس لبغداد التي افترض ان قراءتك لها قد اعطتك انطباعا حول ما إذا سقطت في السرد والعادية اللذين تتحدث عنهما أم لا؟ ومع هذا فإن مفهوم الطول والقصر بالنسبة لي هو مفهوم لا يتعلق بحجم القصيدة على الورق لكن بمدى أثرها في النفس ودلالتها‚ ولهذا فإن قصيدة من صفحة واحدة قد تشعرك بما أشرت له‚ لكن قصيدة أخرى‚ بمائة صفحة مثلا‚ قد تنجو من الوقوع في مشكلات الطول فمنذ بداياتي الشعرية وفي القصائد التي نشرتها في بغداد اوائل الثمانينيات كنت ميالا الى القصيدة ذات البناء الملحمي الدرامي‚ لكنني لم اصل اليها تماما في كل القصائد التي نشرتها في مجاميعي الشعرية الأربع السابقة‚ ولا أدري ان وصلت لها الآن‚ في هذه القصيدة التي اشتغلت على انجازها لسنوات بوصفها عملا شعريا له ملامح المشروع أكثر من كونها قصيدة عادية عن بغداد‚ لكن أما كان من الممكن ان تقول ما قلته بكلام أقل؟ ــ بكلام أقل؟ أعتقد انني حاولت الابتعاد قدر ما استطيع عن الكلام‚ فبغداد التي بناها المنصور بعد ان رسمها خريطة من نيران‚ تمثل حرائقها بالنسبة لي المستهل والمآل المخيف الذي قد تصير اليه المدن التي نحب‚ بغداد التي كان الرشيد يجد فيها روما وان الغيمة التي يراها تتحرك ستمطر في مكان يعود خراجه اليه! وبغداد عصر الخلافة الملتبس‚ وموجات الفتن والاضطرابات التي مرت عليها مع خيل المغول والغزاة والطغاة عبر التاريخ وصولا الى طائرات التحالف‚ التي كانت خلال حرب الخليج الثانية تعيد مشهد الحريق الذي صورته بدايتها‚ كلها عناصر يصعب على الكلام العادي ايجازها بل حتى وصفها‚ وبغداد التي ولدت فيها‚ وعشت فيها الطفولة والشباب وغادرتها عبر النهر‚ ذلك النهر الذي كنت احس بالاغتراب كما قرأت نشيدا عن الطفل والنهر في درس القراءة الابتدائية‚ بغداد هذه لا يمكن للكلام قليلا كان ام كثيرا ان يصفها‚ لهذا أقول لا كلام عن بغداد فكل ما فيها كمدينة وتاريخ ووقائع وأحداث وشخوص هو شعر في شعر‚ حتى بتاريخ القسوة والدم! هل تعلم انني لم اعثر في المراثي التي كتبت عن بغداد بعد اجتياح المغول لها قبل أكثر من ثمانية قرون سوى أبيات بكائية محدودة ومبتسرة‚ تصف ما حدث؟ ومن المفارقات مثلا ان اجمل المرثيات التي وصلتنا عن بغداد كتبها شاعر فارسي هو سعدي الشيرازي‚ لقد أردت لقصيدتي عنها ان تكون نشيدا‚ وتحاول خلق اجواء ملحمية عبر تعدد الأصوات وتداخل الأزمنة والأمكنة‚ وحضور الأشخاص من كل العصور‚ لقد أردت ان أمزج السيرة الشخصية لي بالسيرة العامة للمدينة وهذا يتطلب عملا متقنا أكثر من انفعال شعري عادي‚ انها إعادة بحث حول بغداد المدينة وأشخاصها حتى أولئك الذين سبقونا في العبور الى الضفة الأخرى‚ وعمل بهذه المواصفات لا اعتقد انه يتحدد بحجم او طول قدر تعلقه بمدى الاتقان والتماسك الداخلي له‚ إذن كيف يفهم الشاعر محمد مظلوم التجريب الشعري‚ خاصة وانك كتبت بأكثر من شكل كتابي؟ ــ الحرية ‚‚ هذه هي الكلمة التي يمكن بها ايجاز تعدد الأشكال الشعرية في قصيدتي‚ فأنا لست من دعاة البدائل الشعرية والأشكال التي تهدم سابقاتها لكنني اؤمن بتجاور وتحاور الأشكال الشعرية المتاحة والممكنة لمقاربة المضمون الذي اريد قوله‚ لا أدري لماذا يجب علي ان انتهج شكلا كتابيا واحدا دون سواه وأمامي اشكال عدة انجزها تاريخ القصيدة العربية‚ الشاعر الحديث ينبغي ان يكون وريثا لهذا المتحقق ومطورا له في الوقت نفسه‚ لقد كتبنا قصيدة النثر اوائل الثمانينيات في العراق كجيل شعري يسعى الى ترسيخ نموذجه في المغايرة‚ لكننا بعد ان نجحنا في جعل هذا الشكل الشعري قائما هناك‚ لا ينبغي ان نعده بديلا عن المنجز من الأشكال الأخرى بل هو مقترح وممكن اضافي لها‚ لهذا لم انقطع في جميع كتبي الشعرية الخمسة الصادرة حتى الآن‚ عن كتابة القصيدة الموزونة الى جانب قصيدة النثر‚ وفي قصيدتي الأخيرة اندلس لبغداد تجد تجاورا وتداخلا لهذين النموذجين اضافة الى مقاطع أخرى عمودية‚ وذلك لطبيعة العمل التي استدعت ذلك‚ وأنا لا أجد في ذلك إلا تأكيدا لمفهومي عن الشعر الذي يعني: الحرية ‚‚ الحرية في اختيار الشكل وتداخله وتجاوره مع أشكال أخرى بلا عقدة ولا موقف من أي منها‚ سوى الموقف من الشعر واللاشعر‚ في قراءتي لمجموعاتك الشعرية لاحظت‚ انك تتجه نحو الوضوح أكثر‚ ربما على عكس الشعراء الذين كلما تعمقت تجربتهم ازدادوا غموضا! ــ أولا لا شأن لي بالشعراء الآخرين الذين هم أحرار في انتهاج الطريق لكتابة القصيدة‚ فطبيعة الشرط الفني والمستوى التعبيري تخص كل شاعر‚ ولكن عندما نقرأ هذه القصيدة او تلك فلنا أن نقول رأيا واضحا فيها‚ ودعني أقل لك بصراحة‚ فالشاعر الذي يتقصد الغموض فإنه بلا شك‚ يحاول اخفاء ضعف ما‚ وأشدد على كلمة يتقصد‚ لأن بعض القصائد تبدو غامضة او تتهم بذلك‚ رغم انها تنطوي على اشعاع داخلي عميق‚ يؤهلها ان تكون جميلة أكثر من كونها غامضة‚ الغموض المتعمد‚ هو إما بفعل ضعف الموهبة والثقافة‚ أو يعبر عن خواء ما‚ أو في أحسن الأحوال ابتسار التجربة الحياتية والوجودية‚ مما يدفع هؤلاء الى التحايل المفضوح للإيهام بان قصائدهم الغامضة تنطوي على هم غير مفهوم‚ وهذا نوع من الدجل الشعري الذي لا يمتلك مؤهلات الاستمرار والبقاء‚ الشعر الخالد هو الذي ينطوي على البساطة والعمق في الوقت ذاته‚ لكنها معادلة صعبة بالتأكيد‚ الغموض ان كان جزءا من حقيقة العمل وطبيعته فهو مشروع وإذا كان يوضع وكأنه شرط كما يفعل البعض‚ فهو مجرد سخام لا ذهب ولا ضوء خلفه‚ إذا كان شعري واضحا كما تقول فهذا شيء يسعدني حقا رغم ان هناك من يقول أيضا ان ثمة غموضا بدرجة ما يحيط العديد من أشعاري‚ إذن ألا تعتقد ان النقد ــ عربيا ــ لم يرق الى المستوى الابداعي‚ غالبا‚ لكثير من النصوص الابداعية‚ إذا كان هذا صحيحا فما هي رؤية محمد مظلوم للارتقاء بالمستوى النقدي العربي‚ ــ اولا ان مشكلة حوار النص/ النقد‚ مشكلة ليست وليدة اليوم‚‚ هناك العديد من الدراسات التي بحثت هذا الموضوع‚ وطبيعة العلاقة‚ التي جرى توصيفها غالبا بالأزمة‚ وشخصيا لا استطيع الادعاء بانني امتلك الرؤية التي تتحدث عنها‚ فهي مهمة النقاد‚ ويكفينا نحن الشعراء ما لدينا من هموم أخرى للارتقاء بتجاربنا‚ وهي الوسيلة الأفضل حتى الآن‚ برأيي‚ على تحريض النقد ــ هل يحرض فعلا؟ ــ على التواصل ولو جزئيا مع تجاربنا‚ ومع انك سألت عن عموم النقد العربي لكنني اجد نفسي مضطرا مرة أخرى للحديث عن النقاد العراقيين‚ وربما تصلح نماذجهم للتعميم عربيا‚ فقد ظهر مع تجربة جيلنا بما انطوت عليه من وقائع أقل ما يقال عنها مريرة تحت وطأة الحرب والقسوة وسقف الفوبيا التي يمكن وصفها بالمرضية‚ ظهرت أسماء جادة كسعيد الغانمي وحسن ناظم وسواهما‚ لكن بدل ان يتجهوا الى اضاءة هذه التجربة من الداخل وهي تجربتهم بالعموم‚ انشغلوا بتنظيرات عن اللغة والاستعارة والبلاغة والبنى الحكائية والسردية‚ بلا تطبيق غالبا‚ وفي ترجمة الكتابات المنشغلة بهذه المواضيع‚ وفي احسن الأحوال وليسمح لي الأصدقاء الذين أحبهم واعتز بامكانياتهم وأقدرها‚ توجهوا لمراكمة مقولات نقدية قارة‚ على أسماء عربية هي نجوم النقد العربي الحالي والماضي‚ وطبقوا مناهجهم بأثر رجعي على تلك التجارب التي لا تجد سواها تقريبا في النقد الحديث‚ السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو عن النوايا المضمرة‚ ربما من دراسة تجارب أشبعت نقدا وأصبحت علامات واضحة في الشعر العربي‚ وهي تجارب أكن لها كل الاحترام في مطلق الأحوال‚ أنت شاعر ثمانيني كيف تنظر الى جيلك من الشعراء العراقيين‚ وأين تضع نفسك‚ من هذا الجيل؟ ــ سأبدأ الإجابة عن هذا السؤال من الشطر الثاني لأقول لك بأنني لن أضع نفسي في مكان‚ تاركا لغيري هذه المهمة‚ وثانيا‚ أضيف انني مشغول حاليا بالفعل بتهيئة كتاب عن تجربة شعر الثمانينيات في العراق‚ وهو يتخذ جانب الشهادة والتوثيق لهذا الجيل‚ مع بعض النماذج التطبيقية لأبرز أصواته الشعرية‚ ومع انني كنت اتمنى ان يتولى هذه المهمة نقادنا لكنني لا اظن ذلك قادما في المرئي من الزمن! وعموما يمكن ان يشكل الكتاب نوعا من الاحداثيات والإشارات الضرورية للنقاد الذين ما زال لديهم بقية من عزم على التفرغ لدراسة هذه التجربة‚ استطيع ان اقول ان هناك غنى في تجربة شعراء الثمانينيات‚ غنى في طبيعة المقترحات الشعرية‚ وتعدد التوجهات والنزعات نحو مغايرة النماذج الشعرية السائدة‚ آنذاك‚ اضافة طبعا‚ الى توجهات أخرى كانت تكرس النماذج المنجزة في القصيدة العراقية والعربية عموما‚ وتنتهج مسارها‚ لكن التيار الأبرز برأيي هو التيار الذي جاء من احتمالات قصيدة السياب‚ اعني البداية مع قصيدة التفعيلة والتحول في سياق تطور طبيعي نحو القصيدة التي لا تلتزم بايقاع‚ واحترز هنا كثيرا عن تسميتها بقصيدة النثر‚ لأن لا شيء فيها من مواصفات قصيدة النثر بمفهومها الوافد من الثقافة الفرنسية تحديدا‚ لا تنس أيضا ان طبيعة التأثر الثقافي في العراق هو انجلوسكسوني أكثر من كونه فرانكفوني ‚ ومن بين شعراء هذا التوجه عبدالحميد الصائح ومحمد تركي النصار وخالد جابر يوسف وصلاح حسن واحمد عبدالحسين ووسام هاشم‚ وهناك التوجه الثاني من حيث الوضوح وهو الذي تمثل قصيدة النثر بنموذجها في سوريا ولبنان خاصة محمد الماغوط وأنسي الحاج‚ ومن بين هؤلاء باسم المرعبي ونصيف الناصري والمرحوم رياض ابراهيم وحكمت الحاج‚ طبعا هناك تيار آخر كان أمينا لتقاليد القصيدة الخمسينية في العراق خاصة لدى يوسف الصائغ ورشدي العامل‚ ومن بين هؤلاء عدنان الصائغ وعبد الرزاق الربيعي وليث الصندوق وسواهم‚ لكن هناك من جرب بعيدا عن هذا كله فناصر مؤنس مثلا اختار القصيدة المرئية مستفيدا من روح المخطوطات العربية القديمة‚ وجمالية الحرف وسحر التعاويذ والفولكلوري الشعبي والمثيولوجي ليغطي قصيدته ببهائها‚ وعلى الرغم من وجود محاولات لدى عمران القيسي في الستينيات من هذا النوع لكن محاولة مؤنس تكتب أهميتها في التصاقها بالموضوعات التي اتجهت لها وعالجتها‚ وفي تحولها الى خيار للشاعر أنجز به أكثر من خمسة كتب حتى الآن.
(*)عن موقع "كتابات" 6/1/2003
|