لست أبالغ عندما أقول أن الشاعر عدنان الصائغ، شاعر متعبد في محراب الإبداع وهو الشاعر الأكثر حضوراً في الأوساط الثقافية من بين أبناء جيله، شاعر – ناسك، استطاع خلال عمره الشعري الذي كرسه لمسائل الإبداع والثقافة أن يصدر تسع مجموعات شعرية خلال الفترة 1984 – 1995 وهو بهذا، يعتبر أن الإخلاص لروحه القلقة لا يأتي إلاّ من خلال التحالف مع العزلة والكتابة التي راهن عليها منذ بداياته. وهو ظل منذ بداياته حتى الآن مخلصاً للغايات الأساسية التي انطلقت منها حركة الشعر العربي الحديث.
هنا حوار معه:
بالرغم من مسحة الشجن في مجموعتك "تحت سماء غريبة" نلاحظ إحتفاءً بأشياء العالم. هل تخلصت من جحيم الماضي؟
- ذلك أن تراكم الحزن قد يخفي أمام عينيك جماليات العالم. فلا بد أن تنفض الأشجار أوراقها اليابسة في كل موسم لتفسح مجالاً أو مكاناً لأوراقها الخضر وبراعمها المتفتحة. على الشاعر أيضا مثلما على الشجرة أن ينفض ركام أحزانه اليابسة من أجل أن تورق في أعماقه غصون الأمل لهذا أحسست أن علي النظر إلى الأشياء من زاوية أكثر وضوحاً واشراقاً لأرى ما لم أكن قد رأيته من قبل.
أنت أكثر شعراء الثمانينات اصداراً للكتب، وتجربتك باتت معروفة للجميع، أين تضع نفسك في مسار الثمانينات الشعري؟
- إن من أصعب الأشياء على المرء أن يحدد مكانه على الخارطة ذلك أن مثل هذه المهمة متروكة للنقاد والدارسين والقراء فهم وحدهم الذين يغربلون ركام الأسماء بالإضافة إلى منطق الإبداع الذي يتجاوز أحياناً كل مقاساتنا.. فالذي يصمد أمام استقراء التاريخ عبر مراحله واتجاهاته وأساليبه هو الذي ينجو من دبق الاحكام الجاهزة فخارطة الجيل الثمانيني في العراق متشابكة ومتداخلة إلى حدٍّ عجيب وغريب، ثمة أكثر من مئتين وخمسين شاعراً ثمانيني على الخارطة لكن السؤال من سيبقى من هؤلاء؟ ذلك هو رهان الإبداع ورهان المستقبل والساحة مفتوحة للجميع.
في قاموسك الشعري الكثير من مفردات "الصعلكة"، مع انك لست صعلوكاً، لماذا تستخدم هذه المفردات؟
- أنا شاعر فوضوي وصعلوك متسكع على أرصفة الورق لكنني منظم في الحياة بينما أجد البعض يمشي على عكس هذا فهو فوضوي في الحياة يسكر ويعربد ويشتم لكنه في الورقة أجمد من خنفساء لذا يأتي نصه معقلنا وذهنيا يقترب من الدراسة الادبية أكثر من اقترابه من روح الشعر الخالص. الثورة في داخلي بركان لا يهدأ، والعالم في روحي شوارع لا تنتهي من الفوضى والجنون وهذا كله ينعكس في قصائدي، ألا تراني فيها صعلوكاً أبدياً ليس له محطة أو وطن أو رصيف.
ما الذي ظل في داخلك من أحلام بعد هذه المسيرة الطويلة مع العذابات؟
- ما زال هنالك الكثير.. ما زالت هنالك شوارع للتسكع مع من نحب على أرصفتها المضيئة، مازالت هنالك أقمار تدعونا للقفز في أحواضها الزئبقية، وأشجار نشم عبق أزهارها، وكتب نودعها أجمل حماقاتنا، وأمطار نرقص كالمجانين بطاساتنا تحت لؤلؤ قطراتها وجبيبة تختصر العالم في ضحكة عينيها وقصائد نزلزل بها عروش الطغيان.. ألم أقل لك ما زال هنالك الكثير من الأحلام.
هل يمنحنا الشعر القدرة على تخفيف الالم؟
- نعم، أكيد وإلاّ ما الجدوى من كل هذه الكتابات التي سفحنا عليها ماء روحنا وعصارة أعمارنا. بالتأكيد يا صديقي فبالشعر نضمد كل جراحات البشرية ونمسح الألم والدموع من المقل الذابلة على لائحة الإنتظار. الشعر هو همس الإنسان للإنسان وبالتالي فهو بلسمه الخفي ورفيقه الأوحد في الظلمة المطبقة، انه كالموسيقى والرسم يجعل لآلامنا قيمة ولوجودنا معنى ولدموعنا نكهة ولعذاباتنا تأريخ.
كيف تكتب القصيدة، أعني هل لديك "طقوس" معينة؟
- للشعر طقوس غابة في الغرابة والتفرد فحين نوقد الشموع على دكة محرابة ونهيء له الأقلام والأحلام والورق وننتظر فأنه لن يأتي. يمد بلسانه ساخراً من كل محاولاتنا الخبيثة في اصطياده.. وحين نكون أحيانا في زحمة الشارع أو المقهى وفي زحمة الأصدقاء فأنه سرعان ما يتسلّل إليك ويهمس في أذنك شيئاً أو يدمدم مقطعاً من قصيدته القادمة فتترك كل شيء وتهرع إليه. ألم أقل لك أنه صديق غريب الأطوار وفريد الطقوس. لكن النظريات الحديثة ترى غير ما أراه. أنا مع نصف منطقها لكنني مختلف مع النصف الآخر. فلقد آمنت تماما أن عصر الشياطين الشعرية قد ولى وأن وادي عبقر لا وجود له إلاّ في أذهان الأكاديميين والشعراء الكلاسيكيين. الشعر كفاح صعب ومطلب عسير لا يأتي إلاّ من خلال الجهد والموهبة والقراءة والمعاناة والاستشراف.
من ناحيتي أستطيع أن أكتب القصيدة في أي مكان وفي الصخب لكنني لا أستطيع أحياناً أن أكتبها إلاّ حينما أكون في أكثر الأماكن عزلة في العالم. إذن فأنا أيضا لي طقوسي في الكتابة مثلما للشعر طقوسه للاستجابة. أليس كلانا واحد.
ما الفرق بين تجارب جيلك والأجيال السابقة؟
- كالفرق بين الجلوس والكتابة على سطح بركان والجلوس والكتابة على مسطبة هادئة في حديقة البيت. قد تقول: حرام عليك أن في ذلك مبالغة ما ولكن إهدأ قليلاً ودعني أوضح لك الأمر فقد ولد جيلنا بين فكي حربين شرستين ولسان حصار طويل (ما رأيك في قساوة هذا المشهد) وكنا ننسل من بين أنياب هذين الفكين لنواصل الحياة والشعر والحب بينما فتحت الأجيال السابقة عينيها على أرضية أكثر نباتاً وخضرة وسكونية مما أتاح لهم السفر والتنقل والقراءة والتشاجر والتثاؤب في المقاهي وشتم الحكومات ورفع الشعارات, أما نحن فيا للهول كانت القنابل التي تتساقط على رؤوسنا وبيوتنا وأحلامنا لا تترك لنا متعة تأمل السماء الصافية ولو مرة واحدة. لقد كانت سماءً في خوذة كما جاء في عنوان إحدى مجاميعي الشعرية.
عانيتم صعوبات كبيرة وتهميش من قبل مواهب ضحلة في الثمانينات والآن انفتحت لكم النوافذ. ما حكمك على انجاز تلك المواهب الضحلة؟
- إنهم دائماً كالأشنات والطحالب التي تطفو على سطح المياه لكن سرعان ما يجرفها التيار وتمضي إلى النسيان لقد عانينا من ذلك الكثير كانوا دائماً يسدون أمامنا مجرى الهواء فهياكلهم التي تضخمت من امتصاص دمنا كانت من السعة بحيث أنها كانت تحجب كل شيء.. صحيح أن هؤلاء الطفيليين في عالم الأدب والفن كثيرون جداً ومنتشرون في كل مكان وزمان لكنهم في بلدي يأخذون شكلاً آخر أكثر قسوة ورعباً. إنهم يهددون وجودك وحياتك بالإضافة إلى تهديدهم الدائم لإبداعك لهذا قال لي الشاعر سعدي يوسف وهو يقرأ مجموعتي الأخيرة: "لقد نجوت من الكابوس أخيراً".
استخدمت في مجموعتك الأخيرة "تكنيكاً" محكماً وخصوصاً قصائد "التنويعات" لماذا لم تستخدم هذا التكنيك في بقية القصائد؟
- في قصائد التنويعات ثمة كثافة في الصور تطلبت كثافة وتركيزا في استخدام المفردات وهذا كله تطلب جهداً في تكثيف السياق الشعري في النص على عكس ما يحدث في القصائد الطويلة التي تأخذ مدياتها في التعبير والاستفاضة على المستويين الشكلي [لغة وصوراً وانساقاً]، والمضموني.. لهذا يمكن ان تعد القصيدة القصيرة خير مقاس لاستكشاف قدرة الشاعر ونجاحه أو فشله.
تكن إحتراماً للبياتي كشاعر وانسان, هل استفدت من تجاربه الشعرية؟
- الشاعر, أي شاعر هو مصهر كبير لكل التجارب الإنسانية منذ هوميروس وحتى آخر شاعر تسعيني.. ألم يقلْ بول فاليري (ما الأسد إلاّ بعض خراف مهضومة) والشاعر الحقيقي هو الذي يستفيد من كل التجارب دون أن يتأثر بها أو تنعكس على قصائده فيكون نسخة مكررة لهذا الشاعر أو لذاك. فالنسخ "الجبسية" سرعان ما تتآكل وتتكسر وترمى.
هل يستطيع الشعر أن يكون بلسماً لتحقيق آلام الإنسان في الوقت الراهن؟
- مهما تعددت آلام الإنسان المعاصر.. وجد الشعر منفذه إلى مناجاة روحه والتخفيف بما يتخذ من أشكال وأدوات لها روح العصر ومتناقضاته. فالإنسان في العصر البابلي كانت البلبالات هي التي ترافقه وكانت ملحمة كلكامش هي التي تختصر ما يريد أن يقوله. وفي العصر الجاهلي كانت المعلقات والقصائد الجاهلية هي ديوانه الذي يرجع إليه في كل شيء وخيمته التي يستظل في أفيائها من هجير الصحراء ورماح الحروب. وفي عصرنا هذا المعقد بتشابكاته التكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كان لا بد للشعر فيه أن يستل قاموسه الغاص ليواكب عذابات الانسان واندحاراته وآماله.
هل ندمت على عمل أصدرته من قبل؟
- كل ما أصدرته هو نتاج مرحلته وكنت فيه متوحداً وصادقاً مع ذاتي والآخرين, لهذا لم أندم على أي عمل شعري أصدرته ذلك أن ما كتبته ونشرته لم يعد ملكي أنه ملك الآخرين وهو متروك لتقييمهم الآن وفي المستقبل, لقد أوقفني مرة رجل في الشارع العام بعد صدور ديواني "أغنيات على جسر الكوفة" وهو يسألني لماذا لم يحتوِ على قصيدة "طلقة" التي كنت قد نشرتها وقتذاك في إحدى الصحف المحلية وبدأ يقرأ لي بصوت متكسر أبيات القصيدة كلها عن ظهر قلب ثم تركني ومضى أحسست وقتها وأنا أتأمل عينيه أنه يؤنبني على سرقة حقه في إخفاء قصيدة غبّرت عنه ذات يوم, مما جعلني أضيفها في الديوان اللاحق مباشرة.
الطفولة, الحب, الزمن, الألم, الصداقات, موضوعات أثيرة لديك وهي تشكل مجمل تجاربك, كيف تعاملت معها؟
- كل مفردة لها مدلولات كثيرة تبتدئ من حاجاتنا البسيطة وتنتهي في أعمق نقطة من حياتنا فالطفولة هي رمز أبدي لحياة الشاعر لن يستطيع عنه فكاكاً وكذلك الحب فهو محور أبدي تدور حول كوكبه روح الشاعر الهائمة. أما الزمن فهو الأجزاء المتناثرة من أحلام الشاعر وهو المرآة الزئبقية التي كلما حدقنا فيها هربنا فيها وهربت منّا.
بينما يدور الألم والصداقات والمجد والنسيان والفرح والبكاء والتحدي والاندحار في مضخات الحياة لتتدفق في سواقيها ذات الشاعر التي تروي الوجود.
إحتفى بك الكثير من النقاد والشعراء المبدعين كالبياتي وسعدي يوسف وعبد الرحمن مجيد الربيعي وياسين النصير وآخرين.. ماذا أضافت لك هذه الكتابات وماذا أخذت منك؟
- أضافت لي قلقاً جديداً، وزادت من كمية شتائم المتشاعرين، وصعّدت من إحساسي بمسؤليتي أمام القراء، وسلطت الأضواء والخناجر والمحبين والمعجبين والمخبرين حولي. أما الذي أخذته مني فهو الهدوء والسكون فقد وضعتني هذه المسؤولية الجسيمة، مسؤولية الشعر، أمام تحديات كثيرة كان عليّ أن أجتازها بصبر وكفاح ومعاناة كي أواصل الطريق الصعب طريق الشعر اللذيذ والشاق.
(*) نشر في صحيفة "القدس العربي" ع 2113 في 24-25/2/1996 ص9 أدب وفن.