أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
حوار مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ

أجرى الحوار: مصطفى عبادة
- القاهرة -


  • في قصائدك نزعة تشاؤمية عالية رغم ذلك تنهي أغلبها ببارقة أمل.. هل ما زال هذا الأمل لديك؟

  • - الحياة المرّة التي عشناها هناك، خلف أسوار أعتى دكتاتورية شهدها التاريخ المعاصر، وبين دخان الحروب، صبغت نصوصنا بلونها الكابي وثقبّت أحلامنا وأيامنا بشظاياها.. فكنتَ ترى اللوعة والشجن والاغتراب في نصوصنا داخل الوطن.. وترى الحنين والخيبات والغياب في نصوصنا الملتاعة خارج الوطن..
    لكن بين هذا وذاك، كانت ثمة أعشاب ندية وزهور متفتحة وينابيع متفجرة تجدها هنا وهناك, في هذا النص أو ذاك, تتغذى بأنساغ الأمل المترقرة في أرواحنا الحالمة بالغد، والعاشقة الأبدية للحرية. ولولا ذاك لغدت حياتنا –  بل ونصوصنا - يأساً ويباساً وموتاً..
    وإلى ذلك أشار الطغرائي:
    "أعلل النفس بالآمال أرقبها  
                       ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ"..
    هذه الفسحة التي وجد الأنسان ظالته فيها، منذ بدء عذاب البشرية حتى يومنا هذا، ربما تكون هي أمنية, أو يوتوبيا، أو هي رغبة وتحدٍ وسعيّ لتحقيق ما لم يتحقق..

  • أنت من جيل الثمانينيات الشعري في العراق, ما الذي بقي من هذا الجيل؟

  • - ظل من هذا الجيل الكثير: نصوصاً وأشخاصاً وشهادات وخيبات.. ظل منه هذا النسغ الملتاع الموصل بين الأرض والثمار الجديدة: تأثراً وتأثيراً، تستطيع أن تتلمسه في بعض ما يكتبه التسعينيون وغيرهم مثلاً..
    إن جيلنا الثمانيني الذي عاش ثلاثة حروب طاحنة وحصارات طويلة وتهميش قاسٍ, كان أقوى في الانتصار على موته ويأسه.. لقد ظل الرائعون والأصيلون منهم يواصلوان مشوارهم الابداعي بمختلف الاتجاهات, مؤسسين ومرسخين مفاهيمهم الجمالية والفنية على خريطة القصيدة المعاصرة عراقياً وعربياً وعالمياً..

  • في عز معمعة القصائد التي تمجد الحرب في العراق كتبت ديواناً بعنوان: "العصافير لا تحب الرصاص.. ألم تخشَ على نفسك من العقاب سيما أنك كنت جندياً لفترة 12 عاماً متواصلة؟

  • - كنا نستخدم لغة الخطاب المستتر أثناء هيمنة الخطاب الاعلامي الرسمي وتصاعد دوي القنابل والشعارات الرنانة في تلك الحقبة الكالحة من سنوات الحرب والموت المجاني وقد ألقت بنا أقدارنا جنوداً أو أحطاباً على تلك السواتر البعيدة, أو أقلاماً بين حقول الألغام..  
    كنا نلوذ بنصوصنا المشاكسة إلى التاريخ والميثولوجيا والحب خوفاً من مقصات الرقيب والتأويلات القاتلة..
    وكان البعض يميل إلى الرمز أو التورية أيضاً تجنباً لمتاعب قد لا تخطر على بال....
    في احدى قصائدي التي نشرتها بعد خروجي من الوطن أقول فيها:-
    "في وطني..
    يجمعني الخوف
    ويقسمني
    رجلاً يكتب
    والآخر خلف ستائر نافذتي
    يرقبني.."

  • قصيدتك "نشيد أوروك" محاولة لكتابة سيرة شعرية للوطن هل قصدت ذلك.. أم أردت استحضار الوطن الغائب في الواقع، إلى القصيدة؟

  • - بدأتُ في كتابة نشيد أوروك عام 1984 في اسطبل مهجور للحيوانات عشتُ فيه قرابة عام ونصف جندياً معاقباً.. والحرب العراقية الايرانية في أشدها. وذات يوم ملأوا الاسطبل بصناديق العتاد المكدّسة لفوجنا, كنا نجلس وننام ونأكل ونستمني, على تلك الصناديق المرعبة..
    أحسستُ وقتها أن مجرد صدفة أو طلقة أو شرارة نار يمكن أن تحيلنا إلى ذرات لامتناهية من الشظايا المتناثرة في فضاء هذا الكون الأجرد.. في تلك الأجواء الكابوسية المديدة جاء أحد الجنود، يوماً، يحمل بقايا صحيفة وجدها قرب حاوية النفايات، بسطها أمامي ليريني صورتي وسط مقال كتبه الناقد المرحوم عبد الجبار داود البصري محتفياً بديواني الأول.. "انتظريني تحت نصب الحرية". انهمكت في بكاء مرّ، وأنا أرثي حالي البائس هنا وثمة أناس وقراء ربما يقرؤونني الآن..
    أمسكتُ قلمي، وعلى ضوء الفانوس الشاحب، المتراقص الضوء، بدأتُ أسطر أولى كلمات قصيدتي "هذيانات داخل جمجمة زرقاء" والتي أسميتها فيما بعد "نشيد أوروك"..
    كنت أحاول أن أسطر فيها كل ما مرّ ويمر بي من فصول وهواجس وفواجع وقراءات وأحاديث وأحلام وذكريات.. و.. و.. ومن خلال ذلك استحضر عذابات وطني المرمى هناك على سواتر الحرب منخوب الروح من الطلقات والشعارات.. ولم أكن أدري أنها ستمتد على أوراقي وحياتي وطوافي لتصل إلى مئات الصفحات ولتخرج بعد 12 عاماً من الكتابة بهذا الشكل وهذا العويل..

  • قصائدك تحتفي باللحظات الحميمية والأصدقاء بما يشكل ثيمة رئيسية من شعرك.. هل هو هروب من قتامة الواقع؟

  • - في التفاصيل الصغيرة يمكنك أن ترى العالم, وفي تلك اللحظات الخفية تتلمس سخونة الواقع, قتامته أو فتنته. وما الشعر إلا سابر أغوار تلك العوالم العصية, مستكشفاً ومدوناً ومستبصراً..
    كنتُ أرى أن الثيمة الحقيقية للحياة والتاريخ تكمن في تلك التفاصيل المسكوت عنها, وفي خفايا الروح وفي قاع المدينة السحيق..
    ومهارة الشاعر هنا تكمن في قدرته على التقاط تلك التفاصيل التي ربما لا ينتبه لها الآخرون على رصيف الحياة..

  • ما مصير هذا الشعر الذي كان يمجد الحرب.. ما الذي سيبقى منه؟

  • - هذه النصوص مصيرها الزوال – إن لم أقل شيئاً آخر - نعم ستزول هذه الأبواق والنصوص واللوحات والمسرحيات والروايات والقصص والأغاني التي زجّها النظام السابق – بالترهيب والترغيب - في أتون معركتهِ، أبواقاً ووسائل ايضاح لإيديولوجيته البائسة..
    ما يتبقى من نصوص الحرب فقط هي تلك النصوص الصادقة المتفردة المعجونة بالدم والرماد, النصوص الحية التي كانت تعبر – بصدق وفنية عالية - عن معاناة الناس وحياتهم المفجوعة ومخاوفهم وأحلامهم وأفراحهم المبتسرة وخيباتهم داخل تلك الطاحونة التي دارت بنا لسنوات طويلة ومريرة..
    يمكن للناقد النزيه وللقاريء الجاد أن يخرجا - من بين تلك الأطنان المكدسة من الروايات والدواوين ببضعة منها حافظت على صدقها وابداعها وهي تستحق منا الاحترام والاهتمام كنموذج حي على أن آلة الموت لم تستطع أن تقتل أو تفسده روح الابداع العراقي أبداً.

  • ما الاضافة التي قدمها جيلك (الثمانينيات) للشعرية العربية من العراق؟

  • - تختلف الإضافة التي يقدمها جيل عن جيل باختلاف منسوبه الابداعي من جهة واختلافات الزمان والمكان والمتلقي- من جهة أخرى –
    هذا المتلقي سواء كان قارئاً أم شاعراً أم جيلاً..
    وقد امتد جيلنا الثمانيني بتجاربه المتفاوتة والمتشعبة إلى التجارب الأخرى سواء كانت ذلك في العراق أو خارجه.
    ويمكنك أن ترى تلك الإضافة من منظورين: تاريخي وابداعي.
    الأول طبيعي يتأتى من تأثير السابق على اللاحق في كل تجربة جيل ومدرسة ومذهب وحضارة.. وهو دورة شاملة في تاريخ الانسانية عموماً.
    أما الثاني فهو ذلك التأثير الخلاق الذي يولد من ديمومة الابداع نفسه وقوة جذبه وتجاوبه مع الآخر..

  • أنت تنتمي شعرياً إلى مدرسة سعدي يوسف.. ألا ترى أن هذه الشعرية استهلكت تقنياتها.. ولم تعد تقدم الآن جديداً؟

  • - لا أنتمي إلاّ إلى مدرسة الشعر بحشد شعرائها من امرئ القيس إلى أحمد الصافي النجفي, ومن كافافي إلى سعدي يوسف, ومن ملحمة كلكامش إلى انشودة المطر, ومن المتنبي إلى شكسبير, ومن انخدوانا إلى سافو, ومن الحلاج إلى محمود درويش.. ومن ديك الجن الرومي إلى أدونيس, ومن لوركا إلى حسب الشيخ جعفر، والخ, الخ من دورة الأجيال والاتجاهات والمشارب..
    ولك أن ترى في التأثر والتأثير سنة الحياة الشعرية, ولك ان ترى في التفرد سنة الابداع الذي لا يتكرر في كل عصر وجيل..
    واخالفك الرأي بأن مدرسة سعدي قد استهلكت تقنياتها, فما زالت حية بجديدها. وما جديد الكواكب إلا ضوؤها المتجدد.. وليس بتغير أشكالها ومساراتها وفصولها..

  • هل تعتقد أن المنفى خلق جماليات جديدة في القصيدة العربية؟

  • - فتح المنفى أمام الشاعر العربي تجربة مهمة في النظر الحر إلى الوطن من شرفة الحرية.. والكتابة المفتوحة عنه بعيداً عن سلطة الرقيب الحكومي..
    وتأتي قصيدة المنفى تنويعاً حاراً على ايقاع الشعر العربي على مستوى المضمون والشكل والرؤية والاتجاه.. ومثلما كان للموشحات الاندلسية تأثيرها على حركة الشعر وخلخلة نظامه الايقاعي.. ومثلما كان لتجربة شعراء المهجر (جبران خليل جبران, والياس أبو شبكة وغيرهم) تأثيرها المهم على المضامين الجديدة.. فأنني أرى أن قصيدة المنفى العربي استفادت من هذا التجارب العالمية وأشياء أخرى كثيرة.. وسيكون لها تأثير واضح على بنية الشعر العربي اليوم..

  • أنت تعيش في السويد بتراثك العربي, كيف كانت لحظة الالتقاء؟

  • - وجدتُ نفسي وشعري بين قطبين مختلفين لا يلتقيان, أنا القادم من بلد الحروب والدكتاتوريات والنفط والقمع إلى بلد الحرية والرفاهية والسلام والأمان, حيث تغدو الحرية لديهم أعلى قيمة في الوجود الانساني وأعلى من أي سلطة.. وحيث لم تعرف هذه الأرض حرباً منذ ما يقرب المئتي عامٍ..
    كما وجدتني بين مناخين غاية في الافتراق.. من بلد تصل درجة حرارته إلى 50 أو 60 مئوية، إلى بلد تصل درجة انجماده إلى 36 أو 45 تحت الصفر..
    وإلى آخر  تناقضات هذين الواقعين المختلفين سلوكاً وثقافة وفكراً وديناً ومجتمعاً وعاداتٍ والخ.. والخ..
    وقد انعكست هذه المتناقضات على نصي بالدرجة الأولى, فحملت صوري الشعرية الكثير من هذه المرايا المتعاكسة.. التي تريك الوجود الإنساني بصوره المختلفة, وثقافاته وأحلامه وانكساراته المتدرجة، صعوداً وهبوطاً، بين الحرية والقمع، بين الانسحاق والأمل, بين الاستشراف والخيبات والخ.. والخ..

  • هل المنفى بالنسبة لك هو استراحة المحارب أم أنه معركة أخرى.. وكيف تخوضها؟

  • - لم يكن المنفى محطة راحة أبداً, رغم قسوة المحطات والدروب الوعرة التي سلكتها طيلة ربع قرن من تاريخ الكتابة.. لكنها بالتأكيد كانت محطة مختلفة, بابتعادها إلى حدّ ما عن مصدر الخطر الرئيسي على حياتي وقلمي, لكن الهواجس والكوابيس ظلت تطاردني باستمرار, وتقظ عليّ مضجعي وهدوئي في هذه البقعة الحالمة المتكئة على كتف القطب..
    وكان هذا بصورة أو بأخرى محفزاً دائماً لي.. يضاف إليه اصراري الأبدي على مواصلة  مشروع  الكتابة رغم كل الضروف.. وما الكتابة – على مدار تاريخها- إلا معركة مستمرة ضد قوى الظلام وأعداء الحياة والجمال والحرية..

  • كيف تعاملت مع فكرة المنفى في الواقع؟ وما مردودها على شعرك؟

  • - لم يكن المنفى وليد لحظة خروجي من الوطن, بل كان يعيش داخلي وأنا داخل الوطن بالمعنى الذي عناه أبو حيان التوحيدي وهو يصف الغريب في وطنه بأنه أغرب الغرباء.. وتلك لعمري محنة لم تواجهني لوحدي أو تواجه جيلي فحسب, بل امتدت على مختلف الأجيال الشعرية في العراق تحديداً وفي الوطن العربي والأوطان المقهورة في العالم بهذا الشكل أو ذاك,..
    فأنت يمكنك أن تجد لوعة الغربة وعذابات النفى مبثوثة في الكثير من نصوصنا التي كتبناها في الداخل، فكان المنفى الداخلي رمزاً للاغتراب عن الواقع الكابوسي الذي عشناه طيلة تلك السنوات المرّة..
    غير انه حمل في بلاد الغربة رمزاً ومعنىً آخرين أقرب إلى الصليب والصرخة منه إلى الحنين والتأوه والاستذكار..

  • لماذا – أصلاً - قررت الاغتراب والنفي منذ البداية؟

  • - في الأجواء الكابوسية والقمعية التي عشناها في بلادنا, كانت مساحة الحرية المتاحة للكتابة تضيق وتضيق يوماً بعد الآخر, حتى لم يعد ثمة مساحة لأي كلمة خارج قوس الرقيب..
    ولهذا كان لا بد من الهجرة حفاظاً على عافية نصي وحياتي, بمعنى انه لم يعد أمام الكتابة من خيار غير الاختناق أو الصمت أو التلوث أو الانفجار.. وكل تلك الخيارات صعبة أو مميتة إلى حد أنه لم يكن بالامكان المحافظة على قلمك ورأسك في آن..

  • وكيف خرجت من العراق.. ما ظروف خروجك؟

  • بعد عرض مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً" وما جرّت من تأويلات وملابسات ووشايات.. وايقاف عرضها, أصبحت كأني أقف على كف عفريت..
    وحين وصلتني دعوة مهرجان جرش التي رتبها بعض الأصدقاء، خرجت من العراق إلى عمان صيف 1993، ثم تسللت عائلتي بعد ذلك لتستقر معي في ضروف غاية في الصعوبة, وبعد أن أصدرت "تحت سماء غريبة" أخذت أجهزة السفارة العراقية تضيق الخناق على أنفاسي وحركاتي وعملي في الصحافة.. وظلت تلاحقني من مكان إلى مكان وأنا انتقل من عمان إلى صنعاء فالخرطوم فدمشق فبيروت، وبعد صدور "نشيد أوروك" هناك وجدت أن وجودي فيها أصبح مستحيلاً فقررت منظمة UN  منحي حق اللجوء السياسي ورتبت سفري وعائلتي إلى أقصى الأرض, إلى السويد..

  • بعض المثقفين العرب الذين يعيشون في الغرب ينظرون إلى المقاومة العراقية الآن بأنها تخريبية.. كيف تراها أنت؟

  • - ليس هناك مثقف أو حزب أو شجرة أو موطن عاقل وشريف يقبل باحتلال وطنه.. مثلما ليس هناك عاقل وشريف يقبل بالدكتاتورية أيضاً..
    لكن مقاومة الاحتلال لا تأتي عن طريق تفجير أنبوب غاز أو مجمع سكني أو تفخيخ مطعم أو قصف مرقد ديني أو مرقص..
    يمكن للمقاومة الحقيقية أن تأخذ طرقاً آخرى غير هذا.. وتعتمد وسائل ناجعة تنظر بالدرجة الأولى إلى مصلحة الوطن والشعب قبل أي شيء..

     
    البحث Google Custom Search