عدنان الصائغ احد شعراء جيل السبعينات بالعراق صدر له اكثر من عشرة دواوين من دول عربية مختلفة منها «انتظريني تحت نصب الحرية ـ اغنيات على جسر الكوفة ـ سماء في خوذه ـ مرايا لشعرها الطويل ـ صراخ بحجم وطن ـ تأبط منفى ـ غيمة صمغ» وغيرها. ورغم سقوط النظام العراقي السابق الا انه مازال منفيا في السويد حتى الان. التقيناه في زيارته الى القاهرة وكان هذا الحوار حول هموم الشعر والوطن والمنفى.
تبدو السردية غالبة على معظم قصائدك فهل اصبحت في رأيك من اهم مكونات القصيدة الحديثة؟
ـ لم يعد الشعر العربي المعاصر يكتفي بأغراض الشعر القديم. كان لابد له من أن يتوغل في مساحات الحياة الملتبسة ويغوص في اعماق الروح الانسانية واضطراباتها وتعقيداتها الاخذة في الطغيان، لهذا كان لا بد للشعر ان يجترح مسارات جديدة تستوعب هذه الفيوضات وهذه العذابات. فكان السرد عنصرا مهما في تشكيل القصيدة الحديثة بالاضافة الى الرموز الاخرى مثل النهل من الميثولوجيا والمعارف الانسانية المتنوعة اصبح الشاعر يختار سردياته لينقل من خلالها صورة روحه وعالمه في خلق اقصوصة الابدية، لهذا فأنا اكثر ميلا الى هذا النوع من فنون الشعر، لانه الاكثر قدرة على استيعاب تشعبات الحياة وتجربتها الشعرية.
هل يفسر هذا اذن اتجاه شعراء عرب كبار كسعدي يوسف الى كتابة الرواية؟
ـ بعض الشعراء وجد أدواته الشعرية غير قادرة على النفاذ أو الدخول الى مملكة السرد الواسعة الاطراف فلجأ الى القص السردي مباشرة فأصدر سعدي يوسف روايته «مثلث الدائرة» وكذلك نبيلة الزبير في «انه جسدي» وايضا فعل عباس بيضون وغيرهم الكثير. وهذا لا يعني انهم انفصلوا عن الشعر في اتجاه الرواية، انما هي بمثابة محطة لهم املتها التجارب والافكار؟
هل معنى الاتجاه الى الفنون الاخرى اذن ان الشعر العربي لم يعد قادرا على تقديم ما يريد قوله؟
ـ الشعر بوصفه فنا واسعا وازليا قادر على استيعاب كل التجارب الانسانية ولكن ثمة لحظات ضغط تسيطر على الشاعر فتتركه مدهوشا امام هذه التجربة أو هذه الفكرة فلا يكون قادرا على استيعابها أو استلهامها وهذا لا يعني قصورا بالشعر أو بالشاعر وانما اللحظة قد تكون خارج سياق الشعر أو الشاعر نفسه.
يسيطر هاجس المنفى على ابداعاتك منذ قصائدك الاولى هل كان تنبؤا برحيل يطول؟
ـ هاجس المنفى يولد مع الشاعر منذ اول لحظات كتاباته. فالمنفى في روحه صليب يحمله معه منذ ان تنفتح عيناه على رؤية المشهد الذي يجد نفسه مستلبا من الاطراف جميعها، فيبدأ بالانكسار في الداخل والذي يفتح في ذهنه مسارب المنفى على شكل يوتوبيا يعيش في داخلها وكأنه داخل منفاه. هكذا الشاعر يعيش داخل وطنه وفي أول هروب له من هذا الاسر يجد نفسه داخل المنفى الاكبر وبالتالي ثمة تواصل وليس انقطاع. وقد يكون المنفى داخل الوطن اكثر عذابا، وهو ما نجده عند ابو حيان التوحيدي وغيره من الادباء شرقا وغربا قديما وحديثا. وقد يكون للمنفى الاخر وجع انساني غاية في الألم والاغتراب فيصرخ ناظم حكمت من منفاه قائلا «يا لحياة المنفى من مهنة شاقة»، وليس جديدا ان يعيش جيلنا الشعري هذا المنفى القسري في تاريخ العراق المعاصر. فقد وجد المنقبون في امور منحوتة لشاعر سومري منفي كتبت قبل اربعة الاف سنة قبل الميلاد يقول فيها: لقد نفتنا الالهة غرباء نجوس الازمنة في رحلة بحارة يبحثون عن النبيذ». فالمنفى قدر الشعراء منذ اول العصور وحتى اليوم طالما كانوا مختلفين مع واقعهم ويرفضون التأقلم معه.
بالنسبة لك لماذا كان المنفى؟
ـ مسرحيتي «الذي ظل في هذيانه يقظا»، التي اخرجها الفنان غانم حميد على خشبة مسرح الرشيد، وهي مستمدة من قصيدتي «نشيد أوردك»، اثارت استياء السلطة العراقية واصبح وضعي مهددا، فانتهزت اول فرصة اتيحت لي حين تلقيت دعوة من مهرجان جرش صيف 1993 فغادرت الوطن وتنقلت من بلد الى بلد حتى وصولي واستقراري في السويد حيث اقيم الان.
يبدو الاخر في قصائدك قاسيا ومضطهدا رغم انك تعيش معه الآن. هل افسر هذا بالحنين؟
ـ أنا ضد الانسان عندما يكون شريرا لانه في هذه الحالة لا يمكن ان تتعامل معه بشكل طبيعي أو ان تحس معه بالامان، وهو ما لم يحدث لي حتى الآن، الا مع بعض الناس أو العناصر التي ارتبطت بأجهزة القمع التي تردد الاوامر بايذاء هذا المبدع أو ذاك، اما الاخر فأحيانا أراه الشاطىء الاجمل بشكل اكثر انسجاما مع روحي وشعري، وهو المعادل الموضوع بالنسبة الي شخصي.
هل افهم من كلامك هذا الموافقة على احتلال امريكا للعراق؟
ـ انا ضد الديكتاتورية وضد الاحتلال، واؤمن بوطن حر مبدع منفتح على الانسانية وعلى الجمال وعلى الحرية وأؤمن ان العراق كطائر العنقاء يحترق ويولد من رماده دائما وابدا.
انت تكتب القصيدة السياسية، رغم، مباشرتها التاريخية كيف تتغلب على هذه المباشرة؟
ـ مقتل الشاعر في القصيدة السياسية، القصيدة الحقيقية هي التي تحمل بذور التفجير والمشاكسة والابداع وان تبقى خالدة في كل زمان ومكان تتوالد مع ثورات البشر على مدار عصورهم. وبالتالي فكل قصيدة مثقلة بشعارات وضجيج هي منشور اكثر منها قصيدة ابداعية. يقول ماركيز ان واجب الكاتب الثوري ان يكون مبدعا، والابداع بحد ذاته هو ثورة وتحطيم لكل الاصنام الفكرية والقوالب الجاهزة. ان تكون مبدعا يعني ان تكون مفجرا وثوريا وجماليا في الوقت نفسه، وكثير من القصائد التي تناولت الهموم السياسية بأسلوب مباشر سقطت في شرك الفجاجة، ولم تعد تصلح لشيء الا للصق على الجدران كأي اعلان زائل، القصيدة الثورية الحقيقية تبقى في وجدان الناس وفي نسغ الشجر وفي ذاكرة الشعوب دما نابضا بالحياة والثورة والتجديد.
لك ديوان «الكتابة بالاظافر» هل ترى ان هذا ما على الشاعر فعله؟
ـ الشاعر الذي لا يخمش الجدران والاشجار والورق والخائف دائما من المشاركة هو شاعر اقرب الى التدجين منه الى التجديد والمغامرة. وكنت ارى منذ البداية في كتاباتي ان على الشاعر ان تطول اظافره لكي يستطيع ان يحفر نصا عميقا في الجذر. واتذكر حكاية الشاعر العباسي الذي هجا السلطان وكتب قصائده على الحيطان فاعتقل وطلب منه ان يمسح ما كتب باظافره حتى بريت ونزت دما ومات. هذه الصورة ظلت ملتصقة بذاكرتي صورة للشاعر في عصرنا هذا وهو يتحدى سلطات القمع المنتشرة في الوطن العربي بامتياز.
اذن كيف ترى العلاقة بين المثقف والسلطة؟
ـ الشاعر دائما وابدا خارج اي سلطة سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية. هو سلطة بحد ذاتها سلطة للجمال وللتعبير وللابداع، فوجود سلطتين المبدع والنظام لابد ان يكون معه اختلاف وهذا هو الامر الطبيعي وما عداه هو محاولة السلطة لتدجين المبدعين، وهذا يحدث في كل زمان ومكان بنسبة متفاوتة تأثرا وتأثيرا وتناسبا مع كمية القمع ومطمع الشاعر للحرية. وكلما ازدادت السلطة قمعا قلت مساحة الحرية المتبقية والمتاحة امام المبدع، وكلما ازدادت مساحة الحرية وجد المبدع نفسه يعيش في اطمئنان نسبي يستطيع من خلاله ان يتحرك، وان ينشر افكاره ونصوصه للناس. هذه المعادلة الازلية بين السلطة والمثقف تعرضت لطروحات كثيرة ولكن النتيجة تبقى واحدة وهي ان المبدع المتفرد هو سلطة بحد ذاتها.
ما الفارق في رأيك بين الشعر العراقي قبل وبعد الحرب؟
ـ دخان الحروب صبغ قصائد اغلب شعراء جيلي بالسواد والحزن والشتات فلا تجد مساحات للفرح الا بشكل قليل جدا بل الحرب تلقي بظلالها الكابية على معظم النصوص التي نقرأها اليوم، لكننا نستطيع ان نرى تحت هذا الرماد ثمة جمرات شعر متوهجة هنا وهناك عند هذا الشاعر أو ذاك، تشع بابداعاتها ولم تستطع طواحين الايام القاسية ان تفتت هذا الجمر ولا هذا الألق