أجرى الحوار: د. ابراهيم اسماعيل
من أشهر شعراء الثمانينيات، وأكثرهم اثارة للجدل من جهة وللاعجاب من جهة مكملة.. يعيش منذ اكثر من عقد منفيا في السويد. يواصل نتاجه الابداعي الذي ضمته الكتب والمجموعات الشعرية الاثنتا عشرة التي اصدرها داخل الوطن وخارجه. حاز على جائزة الشعر العالمية في هولندا عام 1997 وقبلها على جائزة هيلمت هاميت لضحايا القمع. "طريق الشعب" حاورته في منفاه السويدي وكان لها معه هذا اللقاء السريع:
متى وكيف تركتم الوطن؟ وفي أي المنافي توقفت؟
- لم أترك الوطن، ولم يتركنا هو أيضاً، إنما سلطته الجائرة هي التي شردتنا في أصقاع المنافي، بعدما تناهشتنا ذئاب حروبها وجنرالاتها وعسسها. فرحنا - نحن يتامى الوطن ومثقفيه - نجوب الأقاليم والأوجاع، وحيدين في أصقاع الوحشة نبحث عن وطنٍ آمنٍ في هذا الزمان الظالم. وكنتُ قد تساءلت في إحدى القصائد، ذات عام من سنوات القذائف:
"من ذا يدل اليتيم، على موضع آمن..
وقد اظلم الأفق، واسود وجه الزمان
تلفّتُ كانت سماء العراق مثقّبة بالشظايا".
كان الوطن زمنذاك، مسوراً بالأسلاك والعسس ومقصات الرقيب، حد انك لن تجد على خريطة العالم وطناً له هذه الكمية من الاسلاك والممنوعات..
في عام 1993 وبعد مغامرة الصديقين الفنانين: غائم حميد، واحسان التلال، باعداد واخراج الجزء الثاني من مسرحية الهذيانات.. وهي نص شعري طويل (كان وقتها غير منشور) وقد أثار ما أثار، ووجدتُ أن المشي أصبح صعباً في حقل الألغام هذا، وأن الأسلاك الشائكة بدأت تضيق وتضيق، حد أن لم يعد ثمة أدنى مساحة للتنفس أو للكتابة. تركتُ أشيائي وأهلي وأصدقائي وذكرياتي وكتبي وحملت الوطن عابراً تلك الأحراش الشرسة. كانت محطتي الأولى عمان ثم بيروت مروراً بصنعاء وعدن والخرطوم ودمشق، حتى وصولي نهاية 1996 إلى السويد، حيث ما أزال أقيم، متدثراً بالصقيع والوحشة والانتظار..
تواصل رغم قسوة المنافي، نتاجكم الابداعي، وسطع بريقه ببهاء أكبر، هلا حدثتم قراءنا ممن عاشوا في تعتيم الدكتاتورية عند ذلك التواصل؟
- مثلما لم أخضع لإرهاب الرقيب في الداخل، وواصلت الكتابة في أصعب الظروف.. وجدتني في صقيع المنفى أجابه شراسة الغياب والصقيع بالكتابة المتواصلة والبحث عن أرخبيلات الشعر المدهشة. أصدرتُ في عمان "تحت سماء غريبة"، وفي بيروت "تكوينات" و"نشيد أوروك"، وفي السويد "صراخ بحجم وطن" و"تأبط منفى"، وتُرجمت بعض نصوصي إلى لغات أخرى، واشتركت في مهرجانات عديدة.. وأشتغل الآن على عمل جديد، مختلف عن تجربتي شكلاً ومضموناً، مازلتُ حتى هذه اللحظة مأخوذاً بتفاصيله الغرائبية التي كانت تكتبني قبل أن أكتبها، سطوراً منفلتة عن كل شيء وهي تحاول فضح المسكوت عنه في تاريخنا وثقافتنا، ذلك الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه..
كيف استقبلت سقوط تمثال الطاغية يوم 9/4/2003؟
- كنتُ كأنني في حلم، خرجنا إلى شوارع مالمو، نصفق ونغني ونرقص، ونصرخ، كالمجانين وسط دهشة السويديين الباردين، وعدتُ إلى البيت مواصلاً التصاقي بالتلفزيون الذي تركته إلى صباح اليوم التالي مفتوحاً، كأنني أخشى أن أغلقه، أو أغلق جفوني، فاستفيق من الحلم...
التليفون أيضاً لم يهدأ أبداً، والمحطات الفضائية لم تهدأ كذلك، وهواجسي ورأسي لم يهدأ لحظة واحدة.. كأني أريد أن أتأكد أن ما أشاهده حقيقة، وليس حلماً.. وتذكرت صديقي عبد الرزاق الربيعي وأخاه الأصغر علي الذي روى لي في بداية التسعينات، أنه ظل يجلس منذ سنين أمام شاشة التلفزيون يحدق في وجه صدام!! وعندما سألته لماذا!؟.. أجابني انه يتفرس في خلايا وجهه ليرى متى يهرم..
آه.. كنا يائسين حقاً وقد أصبح وجوده أبدياً، ولا أمل أمام هذا اليأس المطبق - وقد تخلت السماء عنا أيضاً - سوى انتظار موته بالهرم والشيخوخة.
وتذكرتُ هرم دكتاتور ماركيز في روايته الشهيرة "خريف البطريرك" الذي لم يصدق أحد موته، حتى رأوا الأبقار الرئاسية تسرح في أروقة القصر وتحطم الزجاج..
هناك حوارات مكثفة وآراء وتقاطعات ودعوات، حول سبل النهوض بثقافتنا الوطنية بعد كل هذا الخراب.. أين يقف عدنان الصائغ والى ماذا يطمح؟
- النقاشات في هذه الأيام ما أكثرها، وهي دليل صحة، إذا التزمت قواعد الحوار الثقافي، وهي بالتالي عامل مهم وفاعل في نهوض ثقافتنا العراقية وتطورها، هذه الثقافة التي كان من أهم امتيازاتها في العصور الذهبية، سعة أفقها وازدهار حواراتها وتفاعلها مع الحضارات الأخرى..
هذه الحرية المفقودة في بلادنا منذ عقود طويلة، إذا ما أحسنا استخدامها فأنها ستنطلق بالأدب العراقي المشحون بالوجع والتفرد إلى مصافٍ غاية في الإبداع والتجدد...
وأتمنى أن ينصب اهتمام مثقفينا في الداخل والخارج معاً إلى ترسيخ هذا المفهوم الجوهري والحفاظ عليه من المتطفلين والفاشلين.. ولا سبيل إلى ذلك – وقد أسقطنا سلطة الرقيب كما أتمنى – سوى مسؤولياتنا الأخلاقية والإبداعية في ذلك، تماماً كما يحدث في الدول المتحضرة.. ويتأتى ذلك من فهمنا العميق للحرية، وهذا الفهم هو الضمانة والحصانة الحقيقيين لها من كل تجاوز..
ومن منطلق الحرية الذي هو المطمح الأول كما أرى، يهمنا أن نسعى جميعاً لترتيب وتأثيث بيتنا الثقافي بالمعرفة والحوار واصدار الصحف الحرة والارتقاء بالنقد الجاد منهجاً وممارسة وسلوكاً.. والخ
ثم لتأسيس هايد بارك ثقافي في كل اتحاد ومنتدى ثقافي أو فني وفي كل محافظة وفي كل مسرح وكاليري وجريدة، يطلق فيها العنان للموهبة أن تنمو وتبدع وللفكر أن يتجلى ويشاكس ويتطور ويجترح ويؤسس، والخ..
كلمة لقراء الجريدة؟
- أتمنى أن لا أرى ولا أعيد، مرة أخرى، قولي:
"في وطني
يجمعني الخوفُ ويقسمني:
رجلاً يكتبُ
والآخرَ خلفَ ستائرِ نافذتي،
يرقبني"