أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
حوار مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ

عبد الحفيظ العدل
ليبيا

  • ما الذي يشغلك الآن?

  • - تشغلني أشياء كثيرة تبدأ بالكارثة المقبلة على بلدي وتنتهي أو لا تنتهي عند مواجع القصيدة..
    أشياء كثيرة ومجلجلة تضج برأسي المستلقي الآن بقلق واسترخاء حذر على حافة نافذة المنفى، مطلاً من خلالها على حركة الشارع وخطى العابرين غير المبالية بما يدور في شوارع رأسي أو شوارع وطني..
    أشياء كثيرة تتفرق وتلتقي، تجمعني وتشتّتني، على الورقة، فأجدني حرفاً مسكوناً باللوعة والكشف، يقود سطوري وحياتي إلى مجاهيل وأرخبيلات لم أعهدها من قبل بحثاً عن المعنى.. وكأنني صدى لبيت المتنبي السابح في الأثير:
    على قلق كأن الريح تحتي
                أوجهها جنوباً أو شمالا
    لكن العاصفة السوداء أو الكارثة القادمة لا تفهم أبداً لغة الشعر، ولا حوار العقل، ولا استغاثات الوطن المنكوب والمحاصر من كلِّ الجهات.
    وهذا ما يقلقني ويشغلني كثيراً، كثيراً جداً.

  • أي طريق قادتك إلى الشعر وهل كتبت قصيدتك أم انك ما زلت تبحث عنها؟

  • - الطرق متشعبة، لكنني حتى هذه الساعة، وبعد ربع قرن من الكتابة، لا أدري أيُّها التي قادتني إلى الشعر؟
    ربما دموع أمي وهي تقرأ قصاصتي الأولى التي عثرت عليها قرب سرير أبي في مستشفى الكوفة!
    ربما تلاوتها للقرآن، تلك التراتيل المعجونة بالأسى، في صحن بيتنا المعروض للبيع، ممتزجاً بإيقاع ماكينة الخياطة التي كانت تخيط بها ثياب أيامنا المشقوقة!
    ربما سمفونية نهر الكوفة بأمواجه العذبة وصيهوده وغاباته المثقلة بالسحر والنخيل!
    ربما رفوف مكتبات الكوفة والنجف المتربة والعبقة بالأدب والتاريخ والأحلام والعبر التي شغفتُ بها منذ صباي!
    ربما دعبل بن علي الخزاعي (الديوان الأول الذي اقتنيته) أو قصص أرسين لوبين أو المتنبي أو حسين مردان أو تحت ظلال الزيزفون أو نهج البلاغة أو الأجنحة المتكسرة!
    ربما احتباس اللاآت في صدري أمام بشاعة ما رأيت!
    ربما فصلي من المعهد عام 1987 بسبب قصيدة كتبتها عن نادي الطلبة.
    ربما السنوات الثلاثة عشرة التي رموني فيها جندياً في تلك الحروب المريرة!
    ربما البغل الذي سبقني على جبل ديركله فأحاله اللغم إلى غيمة من الشظايا والدم.
    هذه الحكايات، التي تتوالد عن حكايات، وربما غيرها، قادت خطواتي القلقة على طريق الشعر، اللذيذ والموجع. وما زالت مساربه تأخذني أو آخذها بحثاً عن القصيدة التي أحلم..
    هل كتبتها في ديواني الأول "انتظريني تحت نصب الحرية"؟
    هل كتبتها في ديواني الأخير "تأبط منفى"؟
    أم ما زلتُ أبحثُ عنها، وتبحثُ عني؟
    لا أدري
    لكنني، ما زلتُ أكتب وأكتب. وحسبي أنني ما زلت حتى هذه اللحظة أبحث عنها. وما الشعر إلا بحثٌ أبديٌّ في سؤال الوجود.

  • في عالم يضج بالمتغيرات والأحداث الساخنة هل ثمة ضرورة للشعر الآن أم أنه فقط نقطة في الهامش الكبير لا يلتفت إليه سوى المخبولين من الشعراء؟

  • - كلما ازدادت الأحداث حدة واصطراعاً كلما ذهب الإنسان يبحث عن ملاذه فلا يجد أدفأ وأحنى وأجمل من الشعر وهو يمسح عن روحه رماد الأيام وأوجاع النفي والإقامة معاً على هذه الأرض السبخة التي هي بحاجة أكثر، يوماً بعد يوم، إلى الخضرة والشعر والينابيع، بعد أن عبثت بها الحروب والكوارث والطغاة، لكي نعيد لها براءتها وعذريتها.
    لذا فأنا أرى أن الدعاوى التي تقول بموت الشعر أو موت المؤلف هي مجرد صرعات بائرة يخلقها ويديرها المتقاعدون وتجار البورصات الثقافية حين يرون أن بضاعتهم كسدتْ.. ولا بد من صيحة أو صرعة جديدة لجلب الانتباه.

  • لكل شاعر قراءته ولكل شاعر طقوسه فهل تكتب نصك أم هو يكتبك؟

  • - أقرأ كل ما يقع تحت يدي من كتب وقصاصات لكنني أجد نفسي ميالاً إلى الشعر والرواية بالدرجة الأساس ثم أتفرع إلى القصة القصيرة والتاريخ وعلم الأديان والمثيولوجيا والرحلات والسيرة الذاتية.
    أما فيما يتعلق بشق سؤالك الآخر فأنا أرى أن النص العظيم هو الذي يكتب الشاعر. وما عداه يمكن أن يكتبه الشاعر من زمن لآخر، ومن مكان إلى مكان، تسجية للوقت الفاصل بين الجمرة والجمرة..
    هناك طقوس للكتابة الشعرية يعتادها الشاعر، وهي تختلف من حالة إلى حالة وتتفاوت بالأهمية تبعاً لصدقها ومنجزها. فحين تلتقي بعفوية الشاعر وصدقه واحتراقاته الروحية الحقيقية وتتسامى على صغائر الأمور والمظهر الخادع والأشياء العابرة، تأخذ هذه الطقوس دور المحفز على الكتابة، وتقترب به من مناخ الإلهام
    وهذا الشحنة الشعرية التي يستمدها الشاعر في الكتابة قد تكون  لحظات سكر صوفية أو كتاباً رائعاً أو امرأة مدهشة أو لحظة حلم عابر أو تجربة ثرة أو وجعاً أو ناياً أو فرحاً مخبولاً والخ، والخ..
    بالنسبة لي أرى أن المرأة والقراءة والحنين هم من أهم شحناتي الروحية. وأتذكر الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، وهو يقول:
    "شيئانِ في الدنيا
    يستحقانِ المنازعات الكبيرة:
    وطنٌ حنونٌ
    وامرأةٌ رائعةٌ
    أما بقية المنازعاتِ الأخرى
    فهي من اختصاص الديكة"
    وها أنا أترك لهما سنان قصيدتي يقودانني إلى حيث يشاءا، في شكل النص أو ايقاعه أو لغته أو مناخه.
    وثمة حالة أخرى قد يكتبني النص وأكتبه معاً، ومعاً نروح نصوغ مسودته النهائية.

  • هل تعتقد أن الشعر قادر على أن يقول كل ما تريده ؟

  • - هذا ما أحاوله، ولكن ليس على طريقة أبي العتاهية الذي كان يردد: "لو أردت أن أجعل كلامي بين الناس شعراً لفعلت"، ذلك أنه يبحث عن تطويع الجملة وزناً وإيقاعاً، لتصبح نظماً. لكن الحالة الأخرى التي أرها أقرب إلى الشعرية هي في السعي لتطويع الجملة بنحتها وتشذيبها وشحنها لتحمل روح الشعر وجمرته..
    وجوهر الاختلاف هذا، هو ما قامت عليه ثورة الشعر الحديث، حين كسرت قوانينه وقواعده وأوزانه وقوافيه، فلم يعد الشعر اليوم مجرد صياغة عروضية بقدر ما هو صياغة جمالية خالصة..
    لكن هذا المفهوم الجديد والجميل أوقع الكثير من أدعياء الشعر الذين وجودوا في كسر قواعد الشعر مفتاحا سهلاً لدخول ملكوت قصيدة النثر لأنها – حسب توهمهم - لا تحتاج إلى كل تلك الأدوات الصارمة، ناسين أنها تحتاج إلى روح الشعر، وذلك هو المهم..
    فأين روح الشعر مما نقرأه اليوم من طوفان النصوص!؟
    وأعود فأقول: نعم، الشعر قادر على استيعاب كل ما يخطر في بال الكاتب أو الإنسان.. وهو قد حفظ لنا كل خلجات البشرية منذ بدأ التاريخ وحتى يومنا هذا بل ذهب إلى بواطن روحية وتفاصيل حياتية لم يستطع المؤرخون تدوينها.
    وتلك هي ميزته.
    ليس المشكلة إذاً في الشعر وقدرته بل في الشاعر نفسه حين لا يستطيع أن يرى أو يميز ذلك الحد الشفيف الفاصل بين الشعر والنثر، حينما يشرع بالكتابة عن موضوعه.

  • هل يفقد الشعر شعريته إذا تكلم عن الوطن وقضايا الأمة أم أن ما يزعمه البعض من أن الشعر يجب أن يكون خارجا عن كل هذه الهواجس له صدقية قد لا يراها سواهم؟

  • - لقد سقطت تلك المقولات الجاهزة منذ زمن:
    "الفن للفن" و"الفن للجماهير"
    فلا تقسيم لوظيفة الإبداع أبداً.
    يرى ماركيز أن واجب الكاتب المبدع هو أن يكتب جيداً
    ويقول محمود درويش: "لا تستطيع فلسطين أن تغفر الإساءة التي تلحقها بجمالها وعدالتها قصيدة فلسطينية رديئة".
    هذه الجمالية برأي هي أسمى وظائف الشعر. ولا أظن هناك وظيفة ثورية للشعر أكثر وأجمل من هذا.
    أما المقولات الباردة أو النقد الثوري التي لا تزال تغري بعضاً من الأدباء وأصحاب الخانات الإيديولوجية التي ترى أن للكتابة عن المرأة خانة، وللكتابة عن الوطن خانة أخرى، فلم تعد تلقي بالاً أو اهتماماً من أحد مثلما كانت منتصف القرن الماضي.
    إن النص الجديد يرى أن الوطن والمرأة مفردة واحدة.
    وفي هذا التمازج والمفارقة تكمن روح الشعر الحقيقي.
    هناك منزلق واحد وخطير ذو وجهين: المباشرة، والإيهام.. وفيهما مقتل الشعر دائماً وأبداً سواء تحدث عن الوطن أو الخمرة أو المرأة أو الكون.
    الشعر العظيم يمكن أن يبقى ملتحماً، بقضايا الوطن والجماهير، وفي الوقت نفسه، مسكوناً بجوهر الإبداع والجمال.
    أما الشعر الفارغ فلا هو قادر على الالتحام بقضايا الوطن ولا بقضايا الجمال ولا بأية قضية أخرى.

  • ما حكايتك مع النثر أم أن شيطان الشعر قد تلبسك فلا تتكلم بسواه إلاّ لماماً؟

  • - نعم تلبسني الشعر إلى حد مدهش، فلا أرى من سبب لوجود القلم بين يدي إلا لتدوينه، أو التخطيط والشروع بكتابة نص.
    وهكذا قذفت إلى رفوف المكتبات عشرة دواوين، وكنت بهذا أكثر أبناء جيلي غزارة في النتاج. لكني لا أرى هذا امتيازاً أو قصداً..
    وفي فترات الاستراحة القليلة من عناءات الشعر، التجأ إلى بعض الكتابات النثرية والمقالات النقدية ليس بمعناها الأكاديمي بل هي أقرب إلى انطباعات شعرية وتجارب ذاتية.
    والآن أتمنى أن يتركني شيطان الشعر قليلاً – كما تسميه – لأكمل ترتيب ثلاثة كتب لي كنت قد نشرت بعضها في الصحف والمجلات، وحملت عناوينها الأولية "اشتراطات النص الجديد"، "المثقف والاغتيال"، "القراءة والتوماهوك"..

  • ما أكثر الشعر وما أقل الشعراء.. ما لذي تقوله في هذا القول؟

  • - بل أرى عكس هذا، ندرةً في الشعر وتكاثراً وتناسلاً عجيباً في صفوف الشعراء، وخاصة بعد دخولهم عالم الانترنيت
    ومع هذا فالقصائد التي تدهشك وتأسرك قد لا تتجاوز أصابع اليدين..
    قد تؤيدني الرأي وأنت ترى معي هذا الخبر الذي نشرته إحدى الصحف: أن في دمشق وحدها 4000 شاعر!..
    ويتفاخر الموريتانيون بأنهم بلد المليون شاعر!!..
    وليس غريباً هذا ونحن أمة ديوانها الشعر، وعدد شعرائها أكثر من عدد نخيلها وزيتونها.
    وقد سمعتُ مرة نزار قباني في أحد المهرجانات العراقية وهو يقول: "لماذا تمطر سماء النجف 500 شاعر في الدقيقة ولا تمطر سماء جنيف سوى ساعات اوميكا وحليب نيدو سريع الذوبان"
    فكيف لو حسبت أمطار بغداد ودمشق والقاهرة والمغرب وليبيا والسعودية واليمن وبيروت..
    هذه النسبة العددية لا تعني شيئاً بقدر ما تعنيه القصيدة المتفردة والشاعر المتفرد..
    فقد لا تجد بين ركام النصوص وأطنان الورق سوى قصائد قليلة، تلتمع بجمالها الأخاذ تحت طوفان عارم من الشعر الرديء، الذي أغرقنا حقاً واغرق ثقافتنا وعصرنا.
    لهذا فالشاعر المعاصر الذي يريد أن يؤسس له صوتاً جديداً متميزاً، عليه أن يجترح مسارات جديدة ويكتشف ويحتطب من غابات اللغة البكر.
    إذاً، ما أكثر الشعراء وما أقل الشعر!..

     
    البحث Google Custom Search