أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الشاعر العراقي عدنان الصائغ:
العالم يمضي إلى قدره المحتوم

عبد الرحيم الخصار
المغرب

عدنان الصايغ تجربة أدبية وازنة ، و نقطة مضيئة في الخارطة الشعرية العربية الراهنة ، تتسم كتاباته بتلك القدرة الهائلة على التحكم في اللغة و جعلها تتحرك وفق ما برصده لها مبدعها ، يوقن الصايغ أن العالم يمضي إلى قدره المحتوم ، لذلك تجده صافنا "كنسر يخفق في مواجهة العاصفة/بينما ريشه يتناثر في السهوب".
عاش الصايغ في أكثر من وطن و تحدث أكثر من لغة، نهل من المعارف الكبرى ، و شهد تجارب الخلق و التأسيس الثقافي و الايديولوجي في العالم العربي ، لذلك اتسم شعره بالعمق و الحكمة والرزانة :رزانة الرجل و رزانة النص.
عبر هذا الحوار الذي أجريناه معه عقب سقوط النظام العراقي السابق نفتح بابا للاقتراب من الصايغ و من عالمه الشعري الشاسع.

  • بوصفك شاعرا له زوايا نظره الخاصة:إلى أين يتجه العالم؟

  • - لا أدري حقاً.. وقد حير هذا السؤال – اللغز عموم البشرية كلها منذ هبط الانسان الأول من سفينة نوح بعد أول طوفان إلهي حتى أخر طوفانات الحروب والدم والكوارث الأرضية، ومنذ سؤال صاحبة الحانة سيدوري الأزلي في ملحمة كلكامش: الى أين تسعى يا كلكامش! أن الحياة التي تبتغي لن تجد!
    كأنها أرادت أن تختصر أو تختم بسؤالها وجوابها معاً، رحلة البشرية قاطبةً، لكن رغم ذلك ظل الإنسان يبحث وتبحث.. غير ملتفت لها، ولمقولة من كتاب الحكمة الصينية:" إذا لم تجد ما تبحث عنه داخل نفسك، فأين يمكن أن تذهب للبحث عنه؟"
    والبحث والسعي عاملان مهمان من طبيعة الوجود نفسه، لهذا أجدني وأنا أبحث في مفارق الطرق الكثيرة لا أدري إلى أين أتجه شعرياً وحياتياً، أو إلى أين يتجهُ بي العالم.
    ثمة أبواب تنفتح وتنغلق أمام الذات، قد تفضي وقد لا تفضي، لكني متجه إليها:
    " أطرقُ باباً
    أفتحهُ
    لا أبصر إلا نفسي باباً
    أفتحهُ
    أدخلُ
    لا شيء سوى بابٍ آخر
    يا ربي
    كمْ باباً يفصلني عني؟"
    كم باباً إذن؟
    وكم طريقاً؟
    والعالم يمضي إلى قدره المحتوم غير آبه لهذا القلق الإنساني الآخذ في التصاعد وقد كثرت الحروب والكوارث والأسئلة، وتقلصت مساحات الشعر والحلم حداً كبيراً..
    هذا الركض السريع للعالم، يجعلني وغيري – نحن الشعراء – أكثر قلقاً وتساؤلاً ونحن نحدق في الحافات الأخيرة للزمن.
    القرون تتوالد عن قرون أكثر ظلماً وفقراً وحروباً.
    والحكام يتوالدون عن حكام أكثر بطشاً.
    ولا حيلة للإنسان المعاصر أكثر من حيلته الأزلية في الحلم بايثاكاه. الحلم بديلاً عن اليأس، أو الثورة بديلاً عن الموت..
    ويظل هذا السؤال الذي شغل العالمَ: شعراء وفلاسفة ومفكرين، وعلماء دين، وسياسيين، عصياً عليهم جميعاً، مثلما هو عصيٌّ على القصيدة، وفي ذلك متعة البحث، متعة الشعر السرمدية..

  • كشاعر تتسم كتاباته بالقوة والتميز والجمال كيف تنظر إلى الشعرية العربية الراهنة؟

  • - المشهد الشعري الراهن غاية في التنوع والتجديد والتعقيد والالتباس - على مختلف الاتجاهات -فإذا أزحنا جانباً هذا الركام الهائل من النصوص المصابة بفقر الدم واليباس والتي سادت وتراكمت هذه الأيام بشكل ملفت للنظر. أقول إذا ما أزحنا هذا جانباً فإن بالإمكان أن نتلمس بوضوح مشهدين حقيقيين مهمين:
    مشهد الحداثة،
    ومشهد الغنائية..
    وبينهما تتواصل وتتنوع وتتفرع مشاهد عديدة للقصيدة تحاول أن تجترح لها مكاناً على خريطة القصيدة المعاصرة آخذاً بالاتساع أو التقلص حسب قانون الابداع والتلقي من جانب، وقانون الأصلح من جانب آخر..
    يمكنني القول أيضاً أن العصر نفسه يفرض شروطه وذائقته وصوره ومعارفه في أحيان كثيرة.
    نعم في أحيان كثيرة يعم الساحة نمط ما من الشعر، مثيراً حوله زوبعة من النقد والمشاكسات والمناقشات، ثم سرعان ما يتلاشى ذلك مخلفاً الشاعر لوحده على سطح الورقة حائراً لا يدري إلى أين يتجه!
    لكنني على يقين أن المبدع الحقيقي هو الذي يفجر الأسئلة ويجترح أسلوبه ومذهبه الفني وهو الذي يترك بصماته واضحة على خريطة المشهد، بجرأة وقوة.. مثلما أنا على يقين أيضاً أن الزمن وحده كفيل بغربلة كل هذا الركام الذي سيذهب جفاءً، ليبقى ما ينفع الناس.. يبقى ذلك "الشعر الذي يبدأ بالمسرة وينتهي بالحكمة" كما يذهب روبرت فروست..

  • لك منجز يهم الشعر وما يحيط به، كيف تنظر الآن إلى هذا المنجز؟

  • - مرة قلتُ، في منصف الثمانينات، قبل نهاية الحرب:
    "خذْ ثمانيةَ أعوامٍ من عمري، وصفْ لي الحرب
    خذْ عشرين برتقالةً، وصفْ لي مروجَ طفولتي
    خذْ كلَّ دموعِ العالمِ، وصفْ لي الرغيف
    خذْ كلَّ زهورَ الحدائقِ، وصفْ لي رائحةَ شعرها الطويل
    خذْ كلَّ البنوكِ والمعسكراتِ والصحفِ، وصفْ لي الوطن
    خذْ كلَّ قصائدَ الشعراءِ، وصفْ لي الشاعر
    خذْ كلَّ نيونِ مدنِ العالمِ وشوارعها الصاخبةِ،
    وصفْ لي لذةَ التسكّعِ على أرصفةِ السعدون
    خذْ كلَّ شيءٍ، كلَّ شيءٍ...
    وصفْ لي نسيمَ بلادي
    أما أنا فغير محتاجٍ لكلِّ هذا...
    تكفيني قنينةُ حبرٍ واحدةٌ لأضيءَ العالم
    يكفيني رغيفٌ ساخنٌ من تنورِ أمي
    لأتأكدَ من حداثتي"
    هذه التجربة الملتاعة، أخذت من عمري أكثر من ثلث قرن.. وأخذت من دمي وأعصابي ومن مباهجي الكثير.. لكنها بالمقابل أعطتني الوهج والخيبة معاً..
    وإذ أراها اليوم وأنا واقف أمام مرآة نفسي كي أرى نفسي: شاباً وكهلاً، يحمل تناقضات الحياة نفسها وأوجاع الروح ومسراتها أيضاً.. فأنني يمكنني أن أتلمس فيها ضعفاً وقوة، تجدداً وركوداً، تحدياً وتردداً، والى ما في خصائص النص أو الروح.. لقد تركتها بين يدي قارئي بلا تغيير أو رتوش ليمضي مع رحلة الشاعر وعذاباته وأحلامه من البدايات إلى اليوم مروراً بكل المحطات: الطفولة، القراءات، الكتابات الأولى، النشر، الحب، المرأة، الأصدقاء، الحرب، المنفى. وهو مشهد واسع – كما أظن – يمكنك أن تجد فيها تنويعات وافتراقات متعددة في الشكل والمضمون، هي بمجملها ترسم ملامح هذا الشاعر الذي كنته..

  • هل تؤمن بلذة النص؟ ما النصوص التي تركت أثرا ما في حياتك؟

  • لولاها، لولا هذه اللذة التي أجدها في النص، والتي لا تعادلها لذة في العالم.. لكان لحياتي شكل آخر لا أدري ما هو.. هذه اللذة العظيمة والمدهشة والخلاقة، أنا بسببها منشد ومشدود للحياة، كأنها تعويض عن حرمان طويل وخسارات عديدة..
    لذة أن تجلس أمام الورقة البيضاء تتماهى بها حتى تصبح أنت نفسك حرفاً سابحاً في سديمها اللانهائي..
    لذة أن تتشكل الكلمات أمام عينيك راسمة على الطاولة عوالم لم تكن تخطر لك على بال..
    لذة أن ترى دهشة عوالمك وكلماتك مرتسمة في عيون الناس..
    لذة أن تجلس بعد هذا العمر بين كتبك وأوراقك، كأنك تجلس وسط أولادك وأحفادك، وقد كبروا وهم يلعبون ويكركرون بفرح أخاذ أو يمسكون بيديك ليأخذوك إلى ألعابهم وعالمهم الساحر البريء..
    لذة أن تستيقظ ذات صباح لتجد نفسك نصاً يمشي بين الناس:
    " نسيتُ نفسي على طاولةِ مكتبتي
    ومضيتُ
    وحين فتحتُ خطوتي في الطريق
    اكتشفتُ أنني لا شيء غير ظلٍّ لنصٍ
    أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ
    ويصافحُ الناسَ كأنه أنا"
    أما النصوص التي تركت أثرها في حياتي، شعراً وقصة وروايات، فهي عديدة ومتنوعة بشكل عجيب وواسع، أكثر من أن تذكر، لكن يمكنني هنا أن أذكر من بينها:
    أشودة المطر، ألف ليلة وليلة، ملحمة كلكامش، الأعاني، المواقف والمخاطبات، الامتاع والمؤانسة، خريف البطريرك، ليلة لشبونة، الدون الهاديء، شرق المتوسط، موسم الهجرة إلى الشمال، لماذا تركت الحصان وحيداً، قمر شيراز، الأخضر بن يوسف ومشاغله، خواتيم، كانت السماء زرقاء، مجرد مرآة مستلقية، تاريخ الأسى، متواليات الكذبة الرائعة، الحرب تعمل بجد، حداداً على ما تبقى، ضيقة هي المراكب، المركب السكران، قصائد عارية، الفرح ليس مهنتي، مسخ الكائنات، الكتاب- أمس المكان الآن، الامتاع والمؤانسة، الأمالي، البيان والتبيين، داغستان بلدي، أيثاكا، عيون ألسا، مكبث، السونيتات،  الأوديسة، المهابهارتا، الرمايانا، الشاهنامة، منطق الطير، رسالة الغفران، والخ..

  • هل بت تؤمن بأفول الشعراء الكبار؟

  • لا أؤمن بأفولهم ولا ببقائهم، ما يبقى هو النص الخالد المتوهج على مدى العصور..
    أؤمن فقط، بالشعر الذي يخترق السنين والحدود والأمزجة والذوائق ويجترح آفاق غير مأهولة.. ويبقى محفوظاً في وجدان الناس وذاكرتهم..
    وهذا هو الرهان أو البرهان الوحيد على كبر الشاعر أو صغره، خلوده أو انمحائه..
    خذ المتنبي مثلاً، هل يمكن أن تقول أن نجمه قد أفل رغم تقلبات الفصول والحداثة والمدارس الفنية، ورغم محاربة الدنيا له، وكذلك الجواهري وأدونيس والسياب والبياتي والخ..
    وخذ شاعراً متواضعاً –لا أسمي أحداً – وسلطْ عليه ما شئت من البروجكتورات وأضواء الإعلام الساطعة والدراسات والصحافة والنقد والمريدين، فأنه سيبقى صغيراً وحتى لو توهمه البعض غير هذا بفعل الأضواء، فأنه سيعود إلى حجمه حال انطفائها..
    والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى..
    الشاعر الحقيقي لا يحتاج إلى هذا
    أما هؤلاء:
    " الشعراءُ الأقصرُ قامةً
    كثيراً ما يضعون لقصائدهم
    كعوباً عالية"..

  • "أصل أو لا أصل
    ما الفرق حين لا أجدك"
    عن ماذا تبحث؟

  • - أبحث عن جمرة النص الخبيئة تحت ركام نثر الحياة..
    أبحث عن الحرية - شرط الوجود الأول - بين الأسلاك الشائكة التي تحيطنا من كل جانب..
    أبحث عن طفولتي التي أضعتها على ضفاف شط الكوفة، وأنا أعمل في مهن تكبرني بعشرات السنين: عامل طابوق، بائع سجائر وبوظا.. والخ
    أبحث عن قبر صديقي علي الرماحي الذي أُغتيل عام 1979، ولم يجدوا له قبراً حتى اليوم، في بلد المقابر الجماعية..
    أبحث عن الكثير من أيامي ونصوصي التي فقدتها هناك على سواتر الحروب الطويلة وبين الملاجئ وحقول الألغام..
    أبحث عن الكتاب الذي أدخل فيه ولا أخرج.
    أبحث عن العيون التي تغرقني بكحلها إلى الأبد.
    أبحث عن النغم الذي يحلق بي إلى تخوم البحر كنورس وحيد.
    أبحث عن القصيدة العصية على الامساك.
    ألا ترى، يا صديقي الشاعر، أشياء كثيرة أبحث عنها منذ الطفولة ولا أزال أبحث فهل تراني سأجدها؟

  • "أنحني كالقوس على نفسي
    و لا أنطلق
    أشياء مريرة تشدني إلى الأرض"
    ما الذي يشدك إلى الأرض؟

  • - نعم، أشياء كثيرة ومريرة تشدني إلى هذه الأرض الحبلى بالجديد والفواجع والآمال:
    " أصغي لرنينِ معاولهم
    تحفرُ التأريخَ
    بأصابع من حجرٍ
    وجلودٍ ملّحتها السياطُ
    أصغي...
    ثمةَ أنينٌ طويلٌ
    يوصلني بسرّةِ الأرض"
    وخذ أيضاً:
    "هذه الأرض التي تدور
    بمعاركنا وطبولنا وشتائمنا واستغاثاتنا
    منذ ملايين السنين
    ألمْ توقظْهُ من قيلولتِهِ الكونيةِ"
    تلك الأرض المرة، والمفعمة بالوجع والحنين والذكريات والغزوات والألم والسير، مازلتُ مشدوداً منها واليها كالقوس أحاول الإفلات، لكن لا طريق.. لا طريق أمامي غير الشعر قوساً ذهبياً أشده ويشدني بحنو إلى تلك الشؤون الموجعة والآسرة كأنها النسغ الحي، ذلك الخيط السري الذي ربط - منذ آلاف العصور - وجدان الإنسان بأرضه، منذ أول شاعر سومري نقش مكابداته على لوح في أور، قبل أكثر من ستة آلاف سنة:
    "حياتنا أقصر من فتيلة قنديل المعبد
    لنعانق جديلة الشمس الطويلة
    وأحلام الناس الضائعة
    ونسافر بها إلى الأبدية !"
    منذ أوفيد الشاعر العاشق الذي نفاه الملك الروماني إلى مدينة توميس المهجورة النائية على البحر الأسود وظلت قصائده مشدودة إلى أرضه وذكرياته هناك..
    وصولاً إلى البياتي وهو ينشد:
    "ونحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب
    نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
    غرباء يا وطني نموت
    وقطارنا دوما يفوت"
    وإلى الجواهري وهو يغني لبغداد:
    حييت سفحكِ عن بعدٍ فحييني
                  يا دجلة الخير يا أم البساتينٍ"
    وصولاً إلى أصدقائي الشعراء المتناثرين في شتات المنافي بعيداً عن بلدانهم وأحلامهم الأولى،
    وصولاً إلى تأبط منفى..

  • تلك العلاقة أو تلك الأشياء المشتركة بينك وبين العراق كيف غدت بعد الأحداث الأخيرة؟

  • - ما زلت أراه - من نافذة منفاي - قريباً من الروح، هادراً بطعوناته، وحيداً في الساحة وقد تكاثر حوله المزايدون والحراب..
    ما زلت أراه:
    " العراقُ الذي يبتعدْ
    كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
    والعراقُ الذي يتئدْ
    كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
    قلتُ: آهْ
    والعراقُ الذي يرتعدْ
    كلما مرَّ ظلٌّ
    تخيلّتُ فوّهةً تترصدني،
           أو متاهْ
    والعراقُ الذي نفتقدْ
          نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
    ونصفٌ طغاهْ"
    لكن الطريق إليه أصبح سالكاً أمامنا نحن المنفيين بعد سقوط تماثيل الدكتاتور، سالكاً وملتبساً في أن، وقد تناهشته الأنياب والأطماع.. وعليه أصبحت مهمة المثقف العراقي اليوم أكثر جدية وضرورية لإعادة بنائه ثقافياً وانسانياً وحضارياً، جنباً إلى جنب مع بنائه الاقتصادي والأمني. وتلك مهمة نبيلة على القوة الوطنية أن تلتفت إليها وأن تفسح – وسط اصطخابها – مجالاً للمثقف أن يقول كلمته بعد سنوات القمع ومقصات الرقيب والسياط.. وأصبح من مسؤوليات المثقف العراقي أن يأخذ دوره الطليعي بعد سقوط التمثال، كما حدث  للمثقف الفرنسي إبان الثورة الفرنسية وبعد سقوط الباستيل..
    هذه المهمة الوطنية المهمة برأيي بامكانها أن تعيد للوطن عافيته وتوازنه وثقافته الخلاقة، بعد أن دارت برأسه الأحداث الجسام وطوحت به الكوارث العظام.

  • ما قدر الشاعر المهجري؟

  • - قدرهُ أن يظل موزعاً بين بلادين كما وصفته في قصيدتي" تحت سماء غريبة":
    " معادلةٌ صعبةٌ
    أن توزّعَ نفسكَ بين فتاتين
       بين بلادين
       من حرسٍ وأناناس
    بينهما، أنتَ ملتصقٌ بالزجاجةِ
    في حانةٍ، تتقافزُ فيها الصراصيرُ
    كانتْ لكَ الكلماتُ، الطريقَ إلى النخلِ..
    من أين جاؤوا بأسوارهم
    فانتحيتَ، تراقبُ
         ضوءَ الصواري البعيدةِ
    يخبو ، ويصعدُ"
    قدره أن يكابد صقيع الغربة في منفاه ويلتاع بالحنين إلى وطنه، روحاً وشعراً.. وكان قد كابد فيه، في ذلك الوطن، ما كابد من قمع وإذلال وحرمان..  
    وذلك لعمري – قدر غير عادي – بالنسبة للشاعر المنفي وهو يعيش المفارقة بعينها – المفارقة التي هي جوهر الشعر – كما يرى د. قاسم البريسم وهو يتحدث عن مجموعتي تأبط منفى قائلاً أن شعريته ترتكز "على حدة المفارقة التي يصهر بها هموم الإنسان وحريته في إناء الوجود الإنساني وهو يوزع مفارقته الشعرية بين الاندهاش والتعجب والسخرية وعلامات الاستفهام، وأحياناً عبر الهجوم المباشر. وهذا هو فعل المفارقة في الشعر كما يقول الناقد الانكليزي كلينث بروكس "أن الحقيقة التي يسعى الشاعر إلى كشفها لا تأتي إلا عبر أسلوب المفارقة" فهي جوهر في الشعر وتعكس وظيفته النهائية التي تقوم على الصراع بين الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، الفاني والأزلي.."
    وقدر الشاعر وهو يتغرب عن بلاده محتجاً على سياسة حاكمه أن يحمل صليب منفاه ونصوصه ويجوب العالم، غير مستقر وغير آمن، كأنه يكتب سيرته بترحاله.. كأنه بترحاله يكتب قصيدته..

  • ثمة نصوص كثيرة نقرأها دون حب ،ما الذي يجعل الشعر جميلا؟

  • - جمال الشعر يتأتى من اللذة التي يتركها على شفتيك.. من الجمر الذي يتوهج بين يديك.. من الارتعاشة الحيية التي تحسها بين جانحيك، تلك الرعشة التي ذكرها أحد الشعراء:
    إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
              فليس خليقاً أن يقال له شعرُ
    ويذهب الجاحظ إلى أبعد من هذا حين يصف الشعر الجيد بأنك "إذا نقرته يطن"، بينما يرى الشعر الرديء "كأن بعض ألفاظه يتبرأ من بعض"
    ويتأتى سحر الشعر وقوته، من خيوط الدهشة التي تسحبك إليها مأخوذاً بتفاصيلها الحميمة والجميلة.....
    هذه الميزة الباهرة والواضحة التي لا يختلف عليها شاعران أو ناقدان وأن شطت بهم تعابير الوصف وآليات النقد..
    هناك نصوص جميلة أخّاذة متجددة متوهجة، عندما تقرأها تجد أنك تحلق معها طيراً طليقاً في فضاءات الحلم بجناحين من ألق وأخيلة ودهشة..
    وهناك نصوص متكلسة جامدة باردة تمر عليها كأنك تمشي على سكة قطار حديدية رتيبة، لا مفاجئات، لا خيال. مجرد امتداد رتيب وايقاع مزمجر مكرور..
    أقول في قصيدة "خطوط":
    "أنتَ تمضي أيها المستقيم
    دون أن تلتفتَ
    لجمالِ التعرجاتِ على الورقِ
    أنتَ تملكُ الوصولَ
    وأنا أملكُ السعة"

  • إذا طلبنا منك أن تضع يدك على النقط المضيئة في خارطة الشعرية العربية الآن،هل تستطيع ذلك؟ بمعنى أن تحدد بعض الأسماء العربية في المشرق و المغرب و المهجر التي استطاعت فعلا أن تحرك بقوة عجلة هذا الدولاب الضخم الذي يسمونه الشعر.

  • - الكواكب المضيئة في عالمنا الشعري كثيرة، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، وهي تظل تدور وتدور في سماواتنا، تضيء ليالينا الكابية باشعاعاتها، لا يوقفها أو يطفئها أحد.. وقد يضيف أحدها للآخر ألقاً وتوهجاً عكس مما يظن البعض ممن لا يعرف قوانين الضوء والابداع..
    يستوقفني من الغرب: توماس ترانسترمر، من السويد، هذا الشاعر المدهش، المرشح لنوبل منذ زمن والذي وصفه الشاعر جوزيف برودسكي الحائز على نوبل (1987) بأنه شاعر من الطراز الأول. وقد جمعتني معه قبل ثلاث سنوات أمسية شعرية احتفاءً بشفائه من مرضه، في قاعة المرايا في مدينة مالمو جنوب السويد. وتلمست فيه قدرة الشعر الهائلة على تطويع الحياة. ورغم أنه مترجم إلى أكثر من 50 لغة في العالم إلاّ أنه للأسف غير مترجم بشكل جيد للغة العربية، وقد اطلعت على ترجمة قام بها الصديق الشاعر علي ناصر كنانة إلا أنها لم تصدر بعد...
    وخذ أيضاً: غلليفيك وسوران وشيماس هيني ودريك ولكوت، وبورخس، وكافافي وجوزف برودسكي وياروسلاف سيفرت وجيسلاف ميلوش واكتوفيو باث وإديث سودرجران.. والخ
    وخذ من العرب القدامى: المتنبي، بشار بن برد، أبا نؤاس، الشريف الرضي، الحلاج، المعري، أبا تمام، والخ والخ
    وخذ من العرب المعاصرين: أدونيس وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وأنسي الحاج والجواهري ومحمد الماغوط والخ... الخ

  • سؤال مستهلك و لكنه ملح: لماذا تكتب؟

  • - لا أراه مستهلكاً بل على العكس، أنه سؤال وجودي مهما استهلكناه يظل عصياً على الاشباع، تماماً كما تقول لماذا نتنفس؟ أو لماذا تعيش؟ أو لماذا تحب؟ والكتابة لا تخرج عن هذه الدائرة السحرية الأبدية..
    هذه الأسئلة الأزلية – وأن كثرت الإجابات عليها – إلا أنها تظل دوماً مجال تساؤل جديد تبحث عن جواب جديد وهكذا دواليك..
    كسؤال أبي الهول الذي كان يطرحهعلى العابر  فأن لم يحله ألقاه من أعلى الصخرة.
    أو كجواب الراهب الغامض بودهي دراما الذي حيكت الأساطير عنه عندما سأله امبراطور الصين: من أنت؟ فأجابه: لا أعرف، ثم سافر لينزل في أحد الأديرة حيث قضى بقية حياته يتأمل في جدار أمامه..
    وككل الأسئلة الوجودية الأخرى.
    بالنسبة لي – وباختصار جديد- أنا أكتب لكي أرسم شكل وجودي وحريتي وأصابعي..
    أو أنا كأبن الملوح قيس وهو يقول:
    فما أشرفُ الأيفاعَ إلا صبابةً
                     ولا أنشدُ الأشعار إلا تداويا"

  • في نظرك، مع الأجيال الجديدة هل ازداد الشعر جمالا أم غدا أكثر خفوتا؟

  • - ازداد سطوعاً عند الشعراء المتجددين والحقيقيين، وازداد خفوتاً عند الكثرة الكاثرة من المقلدين والأدعياء.. فالتكرار والاستسهال، أماتا سحر التلقي عند القراء وزاد من سعة الهوة بين المتلقي والشعر.. حتى أنك في بعض الأماسي لا تجد سوى الشاعر لوحده وبضعة أنفار من أصدقائه ومشجعيه، وتجد ديواناً شعرياً لايباع منه أكثر من عشر نسخ كما أخبرني أحد أصحاب دور النشر في عمان. لكن أمسية شعرية لمحمود درويش يحضرها أكثر من 3000 مستمع، وديواناً جديداً للماغوط أو سعدي يوسف أو أدونيس تجد له إقبالاً لافتاً.
    من هنا، من كل هذا، لك أن ترى في جماله ما شئت وأن تقلب جمراته كما شئت.
    ولك أن ترى في خفوته ما شئت وأن تنبش في طيات ركامه الآخذة في السمك كما شئت...
    وهذا هو حال الشعر والفنون قاطبة منذ أن فتح الإنسان الأول وعيه على الحرف والنغم واللون، وحتى يومنا هذا..
    ولك أيضاً أن تضيف سبباً آخر للنكوص أو للوهج – على حد سواء - في هذا التنوع الجديد والعجيب والمعقد الذي ولجه الشعر اليوم تحت يافطة الحداثة، فترى في التجارب الجديدة التي ما فتئت الأجيال الجديدة تدشنها طرقاً تتفتق عن طرق للبحث عن الجديد والمبتكر، وتلك لعمري أجمل سمات الشعر اليوم، فما عادت الذائقة العصرية تستهضم المواضيع المباشرة والخطاب الثوري أو التكرار والتقليد مثل ذلك الذي ساد في فترات العصور المظلمة على سبيل المثال، كأن ينظم شاعر قصيدة مخمسة في مناجاة النرجيلة أو صف اللوزينج..

  • لك يد في تداول الشعر عبر الأنترنيت ، كيف تنظرون إلى هاته المغامرة؟

  • - إنها مهمة جميلة وممتعة وخطرة في آن.. خطورتها تكمن في الإستسهال فقط.. وما عدا ذلك فكل ما فيها فاتن ومفيد..
    أتمنى أن تتسع شبكة الانترنيت أمام القصيدة على مساحات الوطن العربي كله، وصولاً وتواصلاً مع العالم..
    وهذه التجربة أو قل المغامرة أغرتني كثيراً بالضحك على رقيب المطبوعات، الذي لم يعد باستطاعته ملاحقة النص وملاحقتنا – نحن الشعراء المهووسين بمشاكسة العالم – لكن هذه الحرية الجميلة علينا أن نتعلم كيف نحافظ عليها وكيف نتعامل مها، كي لا نذبحها باسم الحرية أيضاً، وهذا هو المحك..

  • ماذا تعني لك الكلمات التالية:

  • * السويد: من الملك إلى أصغر شرطي يقفون احتراماً للإنسان. انهم يعملون ليل نهار في خدمة هذا الإنسان الذي يعيش العمر في بلدنا لخدمة الحاكم..
    * الكتابة: شهوتي الأبدية التي أراها تزداد مع العمر والتجربة اتقاداً واستكشافاً ولذة
    * محمد الماغوط: ينسكب الشعر من أردانه الدمشقية أينما التفت.
    * مرام المصري: إنها مرام المصري.
    * قاسم حداد: جهات الشعر الأكثر قدرة على استيعاب الآخر.. التقيته لأول مرة في الدوحة قبل عام، كان شفافاً ووديعاً في زمن اصطخاب الشعراء الديوك.
    * عبد اللطيف اللعبي: في تجاعيد الأسد جلست منتصف التسعينات أحاوره عن الشعر والسجن والتجربة، لصحيفة آخر خبر حيث كنت أعمل في عمان، وأعدت نشره صحيفة القدس العربي في لندن.
    * جماعة كركوك: أثرت في الشعر العراقي والعربي كثيراً. يكفي أن منهم سركون بولص وفاضل العزاوي وجان دمو.. وجليل القيسي ومؤيد الراوي، وصلاح فائق، وأنور الغساني، ويوسف الحيدري والأب يوسف سعيد،...
    * الغارة الشعرية: كم أحب تلك الغارات الشعرية، ولي فيها أصدقاء جميلون.. لكن أين هي الآن هل توقفت عن نشاطاتها؟ وأين حطت مجلتهم رحالها؟..


    (*) نشر في موقع "الذبابة" 5  يوليو or تموز 2004 وفي موقع "مدينة.. على هدب طفل"  ايلول 2004

     
    البحث Google Custom Search