النص بين الوطن والحرب والمنفى الشاعر عدنان الصائغ: كثير من النصوص لا تريد أن تقول شيئاً
أجرى الحوار: نصيف الناصري السويد - مالمو
الشاعر العراقي عدنان الصائغ الذي ألقت به القصيدة منفياً في جنوب السويد، حيث الوحشة والثلج والبرد، بعيداً عن وطنه ومكتبته وبيته الدافئ الصغير على ضفاف نهر الكوفة، يحاول من خلال القصيدة التي يكتبها أن يجد نفقاً في هذا الكون الذي يستلب الإنسان ويدمره في كل لحظة من خلال الحروب والقمع والمنافي، وعدنان الصائغ الذي يعيش مخلصاً مع العالم، والقصيدة التي تؤرقه وتنغص عليه حياته، شاعر يتعامل مع شعره بدأب وإخلاص، يكتب قصيدته ويمضي يومه بانتظار قصيدة جديدة وولادة جديدة، وقد أصدر حتى الآن عشر مجموعات شعرية تناولها الكثير من النقاد المعروفين في العراق وخارجه بالدراسة والتحليل. ونال الكثير منها صدى طيباً. التقيته هنا من أجل الحديث عن حرارة التجربة ووحشة المنفى فكان هذا الحوار.
توجت مسيرتك الشعرية بعمل ضخم (نشيد اوروك) الذي نال صدى كبيراً من قبل النقاد وقراء الشعر، نود أن تحدثنا عن هذا العمل.
الحديث عن نشيد اوروك يفتق في روحي دروباً شتى: الشعر، الطفولة،المنفى، الحرب، التجربة المريرة نفسها التي عشتها جندياً طيلة 13 عاماً، ومكوثي حوالي عامين في إسطبل للحيوانات في قرية شيخ أوصال في السليمانية، صناديق العتاد التي كنا ننام عليها، ونأكل ونستمني ونتشاجر، ونتطلع عبر الكوة الضيقة والبراز المتيبس والأسلاك الشائكة إلى الطيور المحلقة في الفضاءات الرحيبة، ونحلم. في تلك الأجواء الكابوسية من عام 1984 ولدت بدايات القصيدة حين حمل لي أحد الجنود جريدة وجدها في برميل الأوساخ، فتحتها، كان فيها مقالة كتبها الناقد عبد الجبار داوود البصري عن ديواني الأول الذي كان قد صدر في بغداد في العام نفسه، تحت عنوان "انتظريني تحت نصب الحرية" وفيها كثير من الاحتفاء الذي لا يليق بما أنا فيه، في هذا الإسطبل المهجور. ألقيت الجريدة جانباً وسط دهشة أصدقائي من الجنود الذين دهشوا لرؤية جندي بينهم تتصدر صورته إحدى صفحات الجريدة، وخرجتُ هائماً لوحدي أردد أبيات لم أكن أعلم إنها ستصبح بداية لأطول قصيدة في تاريخ الشعر العربي كما عدها النقاد بعد صدورها عام 1996 في بيروت، أي بعد 12 عاماً من تلك المحاولة الأولى: " في المحافل أو في المزابل/ في الأغاني التي كرزتها الإذاعات / في حجر الصمت يجرش ضحك السنابل /في دروب الصحافة في اللادروب، الغروب الذي سال أو مال / من قال إن القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاول …الخ ( … بعد سنوات، سيتم نقلي من الاسطبل إلى صحيفة القادسية ثم إلى مجلة حراس الوطن حتى إغلاقها يعد إعدام سكرتير تحريرها الصحفي ضرغام هاشم، والحديث مرير ويطول) ثم أعود إلى القصيدة فأقول منذ بدأت الكتابة بها لم أكن أخطط لها شكلاً أو لغةً أو محتوى أو نهاية. تركتها تسيح وتهذي وتسجل بصدق حرارة التجربة نفسها بكل مراراتها ودفقها وسرياليتها والسحرية الواقعية التي تكتنزها، ثم وجدتني أغوص في أعماق التاريخ الإنساني لاستكناه معنى أو تفسير لما وصلنا إليه. وحين قرأ المرحوم الناقد جبرا إبراهيم جبرا صفحات منها شجعني كثيراً ونبهني إلى إنني أضع أصابعي على ملحمة عراقية معاصرة سيكون لها صدى مهماً و.. و.. وحين أطلع عليها خالي الشاعر والناقد د. عبد الآله الصائغ سماها القصيدة المنجمة، وكتب لي :" أنت لا تدري بأنك أنجزت رواية شعرية مبتكرة اختلجت فصولها واختلطت شخوصها واختبلت أخيلتها.." ولا أنسى حماس صديقي الرائع الشاعر عبد الرزاق الربيعي وبقية الأصدقاء الذين تحمسوا لها ومنهم الصديق الفنان المخرج غانم حميد الذي أخرجها للمسرح مرتين: في اكاديمية الفنون الجميلة حيث بكى المرحوم الفنان الكبير إبراهيم جلال طويلاً ، وفي مسرح الرشيد حيث تم منعها بعد العرض الأول ولم يسمح للمخرج بتقديمها إلا بعد حذف مقاطع كثيرة منها. وحين خرجت من العراق عام 1993 قاسمتني تشرد من منفى إلى منفى: عمان، صنعاء، عدن، الخرطوم، دمشق، ثم بيروت، وهناك فكرت في طباعتها بعد أن أحسست إنها اكتملت. لكن واجهتني مشكلة أخرى يطول الحديث عنها ويوجع. إذ بعد أن وقعتُ عقداً تلقى صاحب المطبعة تهديداً من إحدى الجماعات المتطرفة تهدده بحرق المطبعة بحجة ان في القصيدة اساءة للدين والأخلاق وبدأت رحلة المعاناة، حتى أرشدني الصديق حسن ياغي صاحب دار المركز الثقافي العربي في بيروت إلى دار نشر جريئة، باشرت بطبع الديوان خلال فترة قصيرة ولقي احتفاء جميلاً أسعدني حقاً من قبل المثقفين والنقاد والقراء في بيروت وفي بعض البلدان العربية الذي وصلها متسللاً بعد أن منعته رقاباتها من دخولها . أقول بألم رغم هذا الاحتفاء فقد تعرضت لحملة تشويه ظالمة من قبل بعض ضعاف الموهبة والتجمعات الطائفية والدكاكين السياسية ذات الأفق الضيق التي لا ترى أبعد من سطور خطابها . وقد راحوا يفسرون ويؤولون ويتهمون بما شاءوا .هذا من جهة، ومن جهة أخرى شن النظام وزبانيته حملة شرسة ضدي ووصفتني صحيفة "بابل " بـ (المرتد )مع 12 كاتباً وأديباً وفناناً عراقياً. وهكذا وجدتني فجأة محاصراً من جميع الجهات. لكن موقف أصحاب الرأي الشجاع والكلمة الحرة كان لي سنداً لا ينسى ،وهم دائماً كذلك ،السور الذي يحمي بعضه البعض أمام رياح التخلف وخفافيش الليل.
هل ما زال الشعر يشكل البلسم الشافي لمحنة واغتراب الإنسان في عالمنا الراهن؟
سمه ما شئت بلسماً أو يوتوبيا أو متنفساً أو بوحاً داخلياً أو طفحاً جنونياً أو سديماً فكرياً أو لعبة شكلية والخ ، إنها كلها بعض من وظيفة الشعر التي عرفها الإنسان منذ عصر الكتابة على الحجر حتى عصر الكتابة بالكومبيوتر وهذه الوظيفة متشعبة ومركبة، ذلك إنك لا تستطيع أن تفصل الجانب الفني والجمالي حتى عن القصيدة التحريضية وإلا سقطت في الخطاب المباشر، كما إنك لا تستطيع أن تفصل الشعر عن الحياة الآلية التي نعيشها وسط منظومة من الأزرار والأسلاك وإلا أصبحت حياتك جزءً من الآلة. لذا فمنذ هوميروس الذي يرى أن الشعر اعادة لصياغة العالم، حتى أراغون الذي يعتبر أن الشاعر يعيد تركيب الكون كما يحلو له، حتى آخر قطرة شعر تسكب على كوكبنا الورقي قبل احتراقه ، يبقى الشعر دائماً نبض الانسان في كل زمان ومكان.
انشغلت مجموعتك (تحت سماء غريبة) بالقلق والمناخات الرثائية وأجواء الغربة عن أشيائك الحميمة، أود أن تحدثني عن شعورك في زمن كتابتها
في "تحت سماء غريبة" وجدت حريتي لأول مرة كما لاحظ ذلك الشاعر الكبير سعدي يوسف وأشار إليها في تقديمه الجميل. فأغلب القصائد كتبتها في عمان محطتي الأولى بعد مغادرة الوطن أحسست إن أصابعي قد غادرت قيودها، وها أنا أمشي على الورقة كسجين يفتح خطواته الأولى على رصيف الحرية بعد اعتقال دام عمر كامل. هذه الهواجس تقترب مما ذكره لي أحد السجناء بعد سنوات وهو يحدثني عن ارتباك خطواته وهو يمشي على الرصيف لأول وهلة، لحظة إطلاق سراحه بعد أكثر من 28 عاماً عاشها في زنزانة ضيقة. خطواتي الشعرية في ذلك الديوان تقترب أو تشبه خطوات ذلك السجين.
نتاجك الذي أعقب صدور مجموعتك (نشيد اوروك) يمنحني دائماً انطباعاً بأنك تفرض شعورك سلفاً على القارئ، ماذا تقول هنا؟
الشعور لايُفرض، وإنما يطرح . ما الضير ان تطرح شعورك وأفكارك وثوراتك على الورقة. أليس إحدى غايات الشعر هي التوصيل. هناك نصوص لا تريد أن تقول شيئاً مكتفية بشكلها الهندسي أو اللغوي أو الايقاعي ، لكنها ربما لا تعمر طويلاً فسرعان ما تزيحها مدرسة أخرى، وهذا الأمر ينطبق على التجارب التي تركز على المضمون أو التوصيل. أنا أحاول أن أوفق بينهما لاعتقادي بأن أحدهما يكمل الآخر وأن المعنى العظيم لا بد أن يحتويه شكل عظيم.
كيف تنظر إلى المكان، خصوصاً بعد تعدد أمكنة اغترابك؟
ثمة إحساس يراودني بالرحيل دائماً، فمنذ الطفولة، وكلما انتقلنا من بيت للإيجار إلى بيت آخر كنت أحس بأنني أودع شيئاً عزيزاً :حفنة من الذكريات والشوارع . ومجموعة من الأصدقاء ورائحة حياة لن تعود. إحساس مرير بالفقدان. فقدان سيظل يلازمني أينما ارتحلت. كأن قدرنا أن نعيش الوطن في الرحيل والرحيل في الوطن. وربما كانت لعنة كافافي معي في حقائبي: "ما دمت قد خربت حياتك في هذا المكان من العالم فهي خراب أينما حللت" ..لقد صرخت مرة في المربد، وقذائف الحرب على أشدها: أريد مكاناً آمناً يا ياسين النصير. هل النص مكان إذن ؟ أم المكان هو نص أبدله بآخر كلما ضاق بي. أنتقل منه، وأحن إليه. وتأمل ما قاله علي بن أبي طالب: "الفقر في الوطن غربة" حيث الفقر إلى الخبز والحرية والحياة ظل يلازمنا منذ أن فتحنا عيوننا على أرض أول الحضارات وأغنى بلدان الله. هذه الغربة التي حملتها معي في روحي وقصائدي هي التي جعلتني أحس بالمنفى داخل الوطن وداخل النص. لقد حمل ديواني الأول عنوان "انتظريني تحت نصب الحرية" والآن بعد 15 عاماً من تلك الرحلة سيكون عنوان ديواني الجديد هو "تأبط منفى". كأن قدرنا – نحن العراقيين – أن نتأبط منافينا كالكتب والحقائب ونهاجر عبر أنفاق القطارات والدروب من وطن إلى آخر بحثاً عن الحرية. هذه اليوتوبيا التي فقدناها وسط جعجعة الشعارات والتصفيق وسرفات الدبابات والقائد الأوحد.
هل أنت راضٍ عن ما قدمته حتى الآن؟
كنتُ أتمنى أن أستريح على تلك الوسادة الذهبية المسماة "الرضا" لكن ما في داخلي من هيجانات وبراكين لا تهدأ كانت دائماً تنغص علي حتى متعة الفرح بنص جديد انتهيت من كتابته للتو . فما هي ألا ساعات حتى أحس ان ماكتبته لا يرضي طموحي ، وان علي البدء من جديد. وهذا ما يجعلني دائم البحث، دائم القلق، دائم التنقل كلما حططت رحالي في وطن أو نص أو بيت، أحس إن لزوجة الرضا بدأت تسمر روحي وتخشب أصابعي وتكلس ذهني .لهذا سرعان ما أقلع أوتادي عن أرض الثبات والقناعة وأرحل .
لكل شاعر طقوسه وعاداته في لحظة كتابة القصيدة، ما هي طقوسك أنت؟
طقوس الكتابة عندي داخلية وليست خارجية أي لا تأتي من خلال طاولة هادئة للكتابة أو موسيقى معينة لهذا تراني أكتب في كل مكان وأمزق أوراقي في كل مكان: محطة القطار، وسط الضجيج، في مقهى منعزل على البحر، في مكتبتي، في أقصى درجات العزلة، أو في أقصى ضجيج الشارع، أحياناً أكتب على ورقة لأتركها إلى ورقة أخرى وهكذا تراني دائم التشظي.دائم التغيير في طريقة الكتابة.أكتب أحياناً في آخر ساعات الليل وأحياناً في الصباح. أحياناً وأنا أمشي وأحياناً أجلس أياماً إلى الطاولة ولا أكتب شيئاً. أحياناً أسمع سمفونية موزارت لأقوم فأبدلها بمقتل الحسين بصوت عبد الزهرة الكعبي. لكن هناك متعة واحدة لم تتغير أبداً هي متعتي في الكتابة لصق نافذة مفتوحة.
أود أن تحدثنا عن مصادرك المعرفية في سنوات التكوين
ولدت في مدينة هي بحد ذاتها منجم معرفي وشعري، فعلى بعد أمتار من بيت طفولتي تسمع شهقات المتنبي الأولى ممتزجة بمخاطبات النفري ومواقفه، بمسائل الكسائي اللغوية، بموشحات الحبوبي، بخطب زيد بن علي، بضجيج مكائن مطبعة الغري بأنين نواعير الفرات وهي تحمل دم الحسين إلى الحقول الممرعة على الضفتين، بخمريات الحصيري : "أنا الإله وندماني ملائكتي "، بسراديب الثوار، بكيمياءات بن حيان، بشرائع القرامطة، بمناجاة ميثم التمار للنخلة التي سيصلب عليها.والحديث عن منجم " الكوفة" يطول.. ويطول بدأت بالتهام مكتبة خالي د. عبد الأله الصائغ ، ثم ملت عنها إلى مكتبة مسجد الكوفة ثم إلى مكتبات النجف متنقلاً من التاريخ إلى الدين إلى التصوف إلى المنطق إلى الشعر إلى الخمريات إلى الأدب المكشوف إلى إلى الخ ،ثم أتجهتٌ بنهمي إلى سوق السراي والمكتبة الوطنية ومكتبات السعدون. وقد تكونت لدي مكتبة كبيرة تركتها هناك للفئران الجميلة الجائعة. وأذكر أن أول شاعر تعرفت عليه وأنا في العاشرة من عمري هو دعبل بن علي الخزاعي اشتريته بأربعين فلس من صاحب مكتبة سمعت قبل سنوات إن الرجل قد جن بعد التعذيب وظل هائماً في شوارع الكوفة يجمع الأوراق في كيس ويرميها في النهر.
كيف ترى الشعر العربي الآن، ما هي اتجاهاته، ومناخاته، وأساليبه؟
يبقى الشعر دائماً – في كل زمان ومكان – كالنهر بتفرعاته وجداوله ومذاهبه وأعشابه وفيضاناته ومواسم صيهوده، عاكساً صورة الحياة كما هي والطبيعة بكل تقلباتها واتجاهاتها وفصولها المختلفة إذ لا يمكنك التوقف عند فصل واحد أو مدرسة شعرية واحدة لتقول أنها كل شيء وأن لا جديد بعدها. هناك أنهار تمضي بأمواجها ومواويلها إلى المصب، خالدة لا يوقفها سد ولا تميتها مواسم الجفاف مهما تقلبت عليها كالمتنبي والفرات وأدونيس والنيل والسياب ودجلة ومايكوفسكي والدانوب الأزرق واليوت والتايمز وسان جون بيرس والسين. وهناك أنهار تضيع في التشعبات والسواقي الصغيرة والرمال، كحال شعراء الأعلام الرسمي والموائد والأحزاب والتقليعات. وأنظر إلى مدارس الشعر واتجاهاته على مر العصور تجد حالة النهر ماثلة أمامك فلا تقلق على حال الشعر يا صديقي مهما رأيت من تقلبات مواسمه وهلوسات شعرائه.
هل تقلقك الرداءة المنتشرة في الثقافة العربية الآن؟
هذا هو الشيء الوحيد الذي يقلقني ويخيفني ذلك أن أدعياء الثقافة بطبولهم وشعاراتهم وأدواتهم يغطون أحياناً على صوت المفكر والشاعر والمثقف الحقيقي وقد يتكاتفون على تشويهه أو كتم أنفاسه أو تصفيته، لكن صوته سيعلو حتماً بعد أن ينجلي الغبار وينتهي دور حراس الأزمنة الرديئة، فالزبد والأشنات تراها تعلو دائمأً فوق البحر لكن الأمواج ستقذفها حتماً إلى الساحل، ولا يبقى سوى موسيقى الموج والزرقة الصافية وصواري المراكب وضوء الشمس.
أود أن تتحدث عن شعراء تحبهم ؟
كثيرةٌ هذه الارخبيلات الشعرية التي أسبح في مدرات ضوئها ومنها أستمد هذا الجنون الخلاب والطاقة الساحرة على الرؤيا والحياة والكتابة .كم هو موحش هذا الكوكب الشاسع لو لا تلك الفراديس التي كلما هدنا خطاب الحياة الممل التجأنا إليها. ما حياتي لو لا هذه الصحبة المدهشة لهؤلاء المجانين المفجوعين بحب الحياة والمعرفة إلى حد إنهم حولوها شعراً. هناك شعراء أحببتهم وعشت في زمنهم أو معهم وكانت لي أكثر من محطة ورحلة في حياتهم . وهناك شعراء أحببتهم من خلال قصائدهم ولم ألتق بهم، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً. والقائمة طويلة والحديث عنهم يطول. فلو حدثتك عن عبد الرزاق الربيعي لالتهمت كل صفحات الجريدة فماذا يبقى للبياتي وسعدية مفرح ولوركا وسان جون بيرس ودنيا ميخائيل وسعدي يوسف وطالب عبد العزيز وسركون بولص وبرودسكي وجواد الحطاب وحمزاتوف وفليحة حسن وشيركو بيكس ويحيى جابر ووالت وايتمن ورامبو وباسم المرعبي وأنسي الحاج والماغوط واديث سودرجران و..و..و..ومعذرة لكل الشعراء الذين أحبهم ولم أذكرهم في هذا المرور السريع بذاكرة كل تأريخها ومجدها انها تضج بهم.
ما الذي أضافته لك إقامتك هنا في السويد على الصعيد الشعري؟
بلد مليء بالحرية والثلج والهدوء المديد ما الذي يضيفه لشاعر مثلي ومثلك معبأ بالرعب والكبت والحروب ودوي القذائف. هذه الصدفة الشكسبيرية التي قدفتني إلى هنا، هي جزء هذه المفارقات الحياتية التي عشتها، وهي جزء من مفارقات قصيدتي. لهذا فالسويد ذهبت بالمفارقة أقصاها نكاية بي أنا الذي وقفت أحدق بالشرطية الشقراء، لأصابعها الناعمة وأتذكر الشرطي الذي هوى بكفه الضخمة على وجهي فأحاله إلى لوحة جورنيكا لم يرسمها بيكاسو. هذا من جانب المفارقات ، ومن جانب آخر كانت لي بعض المشاركات في المهرجانات والاماسي الشعرية هنا ، قرأت مع شعراء مهمين عندهم وازددت قناعة إن الشعر يكتسب أهميته من محليته وليس من اللهاث وراء تقليد الآخر . لقد رأيت شعراء خلعوا ملابسهم الشعبية وارتدوا القبعات الغربية لانهم يعتقدون أنهم بهذا سيكونون أقرب للحداثة والعالمية. أذكر من تجربتي الشخصية، عندما قرأت في مهرجان أيام مالمو العالمية للشعر عام 1997 وأجريت صحيفة هلسنبورغ داغبلاد Helsingborgs dagblad استفتاء للجمهور عن الشعراء الذين توقفوا عند قصائدهم، كتبت الصحفية السويدية ياسيكا يورانسون التي أعدت الاستفتاء: "كثيرون أحبوا الشاعر العراقي لأن صوره الشعرية جميلة جداً، قالت ماركيب اهلين – زائرة من المهرجان – لقد كان يتكلم بحيوية وشعره يعبر بصدق عن الرجل الذي أصبحت لحيته حديقة" لقد كانت دهشتي عظيمة عندما أشاروا إلى قصيدتي "في حديقة الجندي المجهول" فقد كانت محلية بحتة وذات دلالات شعبية كنا نعيشها كجنود أثناء الحرب لا يعرفها المواطن السويدي.
تبدو لي اللغة التي تكتب بها الآن بعد صدور مجموعتك (نشيد اوروك) أكثر اقتصاداً من حيث الاحتدام، هل توافقني الرأي؟
في بدايات كل شاعر فيض من الأسترسالات والسرديات والمباشرة، يجد بعد فترة أنه لا بد من التكثيف، من الأقتصاد بالمفردة وهكذا تتجه القصيدة لديه إلى البلورة. بعد تجربة نشيد أوروك التي ربما قلت فيها كل ما أردت قوله أجدني اليوم أميل إلى تجربة قصيدة الومضة وهذه التجربة ليست جديدة علي فقد رافقتني منذ بداياتي وترسخت أكثر في ديواني "تكوينات" وستجدها في ديواني الجديد "تأبط منفى" – الذي لم يصدر بعد – . الاقتصاد باللغة ضروري جداً في عالم الإعلانات والاستسهال السياسي والثقافي وهذا الاقتصاد الذي تسميه العرب بلاغة الإيجاز ليس سهلاً بالمرة. أن كتابة قصيدة قصيرة أصعب عشرات المرات من كتابة مطولة. لقد جربتُ الأثنتين معاً: الطويلة إلى آخر مدى والقصيرة إلى حد سطر واحد . ان لكل تجربة مناخها ومتطلباتها وغاياتها وأنا لا أجبر القصيدة على أن تتمطط أو تتكثف، فالتجربة والحالة الشعرية هي التي تلبس أصابعي وتفرض ما تريد.
ماذا تقرأ الآن وما هو مشروعك القادم؟
أقرأ كل ما تقع عليه يدي من صحف وانترنيت وكتب ومجلات ومراجع وشوارع وأصدقاء وأفلام وأحلام وحانات، أنه النهم الشرس الذي ينغص علي حياتي ويمتعني في آن.
نشر في جريدة الزمان – لندن / العدد 277 – 17 مارس 1999 – ألف ياء
|