أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
ثلاث لقطات للحافلة 71

مذكرات من داخل الـكابـ(وطن)ـس

إلى الشاعر العذب عدنان الصائغ

د. حسن السوداني
Swdiny@yahoo.com

لقطة بعيدة:
كل الذين سبقونا في الدراسة أكدوا لنا أن نستمتع بها قبل أن تنتهي, فلا أجمل ولا أروع من حياة التلمذة. وأين؟ في كلية الفنون الجميلة، وفي قسم الفنون السمعية والمرئية حيث دخلته عام 1982 وكان من بين أهم اهتماماتنا وقتذاك هو البحث عن الفيلم والمسرحية والقصيدة واللوحة والبحث عن المعارض والمسارح والسينمات وشارع المتنبي الذي لا يمر يوم إلا وجردناه بحثا عن قطعة ثمينة من جواهر كنوزه المبعثرة, وكنت أبحث يومها عن مصادر لفيلمي الذي طالما حلمت به وموضوعه نصب الحرية وأبطاله كل شخوص النصب, وبينما أنا كذلك وجدت ديوان عدنان الأول (انتظريني تحت نصب الحرية) الصادر عام 1984وبدأت البحث عن عدنان الصائغ دون جدوى فقد كان في إحدى الجبهات المتقدمة وبيته في الكوفة. كانت تلك بداية تعرفي على الصائغ والذي سيصبح فيما بعد أقرب إلى روحي من روحي.
بعد أربع سنوات عدت إلى الكلية من جديد طالبا للماجستير وكان صديقي الفنان غانم حميد بانتظاري:... حسن.. هل تذكر مرة أنك سألتني عن عدنان الصائغ؟ أجبته: نعم هل وجدته؟ قال: سيكون لنا لقاءً حارا به حيث بدأت بالتحضير لعمل مهم من إحدى قصائده غير المنشورة وقام بمسرحتها صديقنا إحسان التلال, فرحت كثيرا لأن لقاءنا سيكون إبداعياً. وعدت إلى البيت لأجد المفاجأة الثانية!! فقد أخبرتني أختي أن معلمة معها في المدرسة هي زوجة شاعر أسمه عدنان الصائغ وقد ترك لي ديوانه (أغنيات على جسر الكوفة) وهم يسكنون شقة صغيرة في حي الأمانة مقابل مدينتنا "الثورة". فقلت لها: لنذهب لهم الآن. فأجابت: سبقتك في الفكرة وسنكون سوية هذا المساء. والتقينا وياله من لقاء أمسينا بعده نلتقي يوميا، ذارعين شارع الحافلة 71 ما بين ساحة مظفر وجامع سيد حسين العلاق مرورا ببيوت أصدقائنا: الفنان حامد المالكي، والرياضي أياد عاصي والمهندس أحمد اللامي، وعشنا معا أدق وأصعب الظروف التي مرت فيما بعد وخاصة الكارثة الخليجية.
في تلك الأيام من عام 1989 قدم غانم حميد مسرحية (هذيان الذاكرة المر) وعلى مسرح أكاديمية الفنون الجميلة. في اليوم الأول وفي منتصف العرض، سقطت طالبة في قسم الفنون التشكيلية، من انفعالها. وما كاد ينتهي العرض حتى ضجّتْ الكلية بعدد من  حالات البكاء والتأثر. ومنها أذكر كيف لطم الفنان الكبير إبراهيم جلال على رأسه متأثراً وهو على كرسيه النقال, كان العرض على بساطته مذهلا نازفا لا تستطيع مسك دموعك أو كتم صرخة ستفجر صدرك إن حبستها قليلا, وتعالت أصوات النابحين وأكلبها: سلام العياش (وكيل الأمن الذي سيصبح فيما بعد ضابط أمن الكلية ونقيب معلمي الرصافة ودكتوراه في المسرح) مطالبين بوقف العرض ومحاسبة من وافق على السماح بإجازته!!
واقتحم الحرس الرئاسي دولة الكويت وذهبتُ إلى عدنان مذهولا وفوجئت بلحيته الكثة ورفضه الخروج من البيت مُسْتَفَزاً من كل شيء. وما إن وقعت عليّ عيناه سألني بمرارة: كيف ننظر بوجوه أصدقائنا: أحمد الدوسري وسعدية مفرح وعلي الشمري وإسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وطالب الرفاعي وعالية شعيب؟ أية كارثة قادنا إليها هذا المتهور؟ قلت: وهل يجدي انعزالك؟
رفض في البداية ووجدت توسلات في عيون زوجته الدامعتين، زوجته التي أرى فيها وما زلت صورة أختي. فألححت عليه ونزلنا إلى شارعنا الأثير وقلت له مازحا: أنت ستكون شاهدا محظوظا.. فبحلق بي مذهولا!!
- كيف؟
قلت: نعم ستكون شاهداً على كل الكوارث القادمة إن نجونا منها.
أطلق عدنان حسرته بمرارة وقال لي: يا حسن أنا الآن لا أقوى على التفكير بشيء فكيف بالكتابة.
في 16/1/1991 وبغداد تترقب الكارثة، وقد أزف موعدها، بعيون معلقة إلى السماء.. كان لقاء وداعياً ما زالت أخاديده محفورة في ذاكرتي.. سلمني عدنان مفاتيح شقته المتواضعة في حي الأمانة التي تجثو على دكان "البنجرجي" أبي زينب وقال: أنا ذاهب مع عائلتي إلى الكوفة فأن نجونا وعدنا فأعطني المفاتيح وأن لا، فتصرف بالكتب وحوض الأسماك بما تحب. وذهب دون إلتفاتة كأنه لا يستطيع تحملها.
وقٌصفت بغداد في منتصف تلك الليلة وانقطعت الأخبار. بعد أيام سود ذهبت إلى دكان أم صادق لأستلم الحصة التموينية لعدنان، فقد كان الخبز عزيزا لدرجة أن من أمتلك منه كيساً، كأنه أمتلك الدنيا. سألتني "أم صادق" بحنوٍّ صادق: "يمه عدنان طيب"... أجبتها: إنشاء الله وأنا سوف أذهب إليه لأطمئن عليه، وسأزور أبا الحسن في طريقي.. أجابت: "أي يمه سلم لي عليه وعلى "أبو الحسن".
المشكلة أننا في بداية الأزمة، كنا نذهب إلى الباب الشرقي والباب المعظم، مشيا على الأقدام فكيف أذهب إلى النجف؟ وأين أجد عدنان؟ كان الوقت يمر ثقيلا جداً. انتهت الحرب وبدأت الانتفاضة, وجاءت الأخبار العاصفة... قُصفتْ النجف، وضُربت قبة الأمام علي، وحُوصرت الكوفة، وسقطتْ منائر مسلم بن عقيل، والجثث في الشوارع... والى آخر الأخبار المهولة.. وأنا أذرع الشوارع لا أدري ماذا أعمل. وفي يوم 21/3/1991 وفي ساعة جنونية، حملتُ حقيبة الحصة التموينية وقررت الذهاب إلى النجف، مهما كانت العواقب في الطريق، غير ملتفتٍ لتوسلات الأهل بالانتظار والتريث والعواقب.. اتجهت صوب الشارع العام لأجد في ما يشبه الحلم: كان عدنان وماجدة ومهند ومثنى يترجلون من السيارة القادمة تواً... ألقينا حقائبنا وحاجياتنا، ووقفنا نبكي وسط ذهول المارة, وتعانقنا و كأننا نلطم. - إلى أين تريد أن تذهب يا حسن يامجنون؟ أجبته بصوت مختنق: إليك، إلى النجف..  وصرخ عدنان كالملدوغ: أكبر مجنون أنت يا حسن حقاً، أين تذهب والجثث ملأت شوارع النجف والكوفة!! - وكيف نجوتم من المجزرة؟ قال: سهواً (بعد شهور سيكتب عدنان قصيدته الشهيرة "خرجتُ من الحرب سهواً") لقد دونتها لحظة بلحظة. لكن من قال إنني نجوتُ. لم أنجُ منها ولا اعتقد أنني سأنجو من أحداثها المهولة كل حياتي، إنها هنا وضرب بقوة على صدره ثم رأسه.. وواصل نحيبه لاهثاً: لقد رأيت ما تشيب له رؤوس الأطفال!! وانزوى عدنان لعدة شهور موصداً عليه الباب في شقته الصغيرة، محتجباً عن العالم وأصدقائه، حتى عائلته لم تكن تره إلا لدقائق، كان منكباً على طاولته الصغيرة وأمامه أوراقه ودموعه وشمعة كان يشعلها في الليل، (فلا كهرباء في المدينة).. وهو يسترجع ما مر ويدون ما حدث، مضيفاً لقصيدة الهذيان فصولاً جديدة. كنت أزوره سريعا لأخرج منقبضاً لحالته، وفرحا – في الوقت نفسه - بما أنجزه.. وبدأت أولى المشاكل فقد قامت بعض الجهات في وزارة الثقافة والإعلام بحملة جردٍ موسع لأسماء كل الأدباء والشعراء الذين لم يكتبوا أثناء المعركة ومنهم عدنان الصائغ الذي كان وقتها رئيساً لمنتدى الأدباء الشباب. وبدأ الرعب وبدأت الاستدعاءات.. وأفزعني صديقي الرائع الشاعر عبد الرزاق الربيعي في اتصال هاتفي: "حسن، سيكون عدنان من أوائل المغضوب عليهم.. ماذا أفعل؟" أجبته: "افعل أي شيء يا رزاق" .. وجاءته الفكرة العظيمة.. "سأكتب خبراً عن عدنان مفاده  أنه يعكف على كتابة موضوع مهم عن تاريخ العراق يتطلب منه عزلة تامة".. قالها رزاق وسط صراخي فرحاً بالفكرة، وفعلاً نشر رزاق الخبر في الصفحة الأخيرة من جريدة "الجمهورية" لتهدأ الأمور قليلاً.. ثم بعدها نشجع عدنان ليشارك في مسابقة نادي الكتاب في موضوعة "يوميات تحت القصف" درءاً للمشاكل وخرساً للألسن الحاقدة التي كانت  تتناوشه باستمرار وهي تتلمس في نصوصه خيوطاً خفية من الرفض، خاصة وأن إصداراته خالية من أي مديح لـ "رئيس البلاد والعباد"، ويقتنع عدنان بفكرتنا ويباشر بالكتابة عن يوميات الحرب مدوناً فيها ما رآه باسلوب التمويه الذي أمتاز به. ونفاجئ بعد أيام بفوزه بالجائزة الأولى للمسابقة، ونتنفس الصعداء ونضحك لأول مرة بعد أشهر من الرعب، ودعوته بهذه المناسبة على عشاء في مطعم "باجة أبن فرهود" لأسجل أجمل مقلب بعدنان مازال يذكره لكل الأدباء والأصدقاء والأهل وسط ضحكاتنا القليلات وأسميناه "مقلب ابن فرهود" سأتركه لعدنان يرويه لكم يوماً ما. وفي تلك الأيام زار الدكتور عبد الإله الصائغ شقة عدنان وفرحنا بذلك الجبل الإبداعي الذي كنت أقرأ له "مملكة العاشق" و"الصورة الفنية معياراً نقدياً" و"الزمن عند الشعراء العرب قبل الإسلام" سألني الدكتور عن مدينة الثورة وما يسمع من أخبارها المتداولة، فقلت له: "سأريك مفاجأة، فهل أنت مستعد لها؟" قال: "بالتأكيد" فذهبت إلى البيت وعدت بشريط فيديو حصلت عليه من أحد الأصدقاء من سكان حينا، يصور دخول الحرس الجمهوري لمدينة الناصرية والمجزرة التي أحدثها، وكتاب "المنظمة السرية"، ودواوين سعدي يوسف الأخيرة، وغيرها، مستنسخة. فدهش الدكتور قائلاً: "أنتم هنا جبهة رهيبة" فقلت: "هذا هو سر تعلق عدنان بنا فلدينا كل ما يغيظ العِدى، وما عليك إلا أن تطلب".

لقطة متوسطة:
عام 1993، وفي الأيام التي أعقبت تلك الأحداث المروعة اتصل بي صديقي غانم حميد مرة أخرى وأخبرني بأنه ينوي تقديم الجزء الثاني من "الهذيان" بعد أن أكمل إحسان التلال مسرحة قصيدة عدنان الطويلة مضيفاً إليها آخر ما كتبه الشاعر وهذه المرة سنكون معاً في كل شيء، فاجتمعنا: غانم، إحسان، عدنان، وأنا، في بيتنا في مدينة الثورة لساعات نخطط لكل شيء ووزعنا الأدوار وكانت مهمتي تسجيل العمل على كاسيت فيديو وتهريبه من قاعة المسرح لتوقعنا المسبق بما سيثيره العرض من مشاكل وربما منعه.. كنا مجانين في كل شيء: في النص والعرض والتمثيل. وفعلا سجلت المسرحية بكامرة فديو وبصعوبة بالغة.
في ذلك المساء كنا نشاهد المسرحية نحن الأربعة:                                 احسان وعدنان وغانم وأنا، في غرفتي عندما اتصلت زوجة عدنان لتخبره أن كادر العمل المسرحي مطلوب للوزارة للتحقيق بخصوص العمل، فاسرع غانم ليتصل ببيته فأجابته زوجته بالخبر نفسه وكذلك احسان.
وفي اليوم التالي استقبل الأصدقاء الثلاثة صباحهم داخل غرفة التحقيق الوزارية برئاسة الوكيل الأقدم نوري نجم المرسومي وعضوية الراحل طعمة التميمي وآخرين. وكنتُ بباب القاعة أنتظر النتائج بقلق مجنون عندما شاهدني الدكتور الفنان عقيل مهدي يوسف فسألني مستغرباً عن سبب وقوفي هناك فقلت له: "الجماعة في غرفة التحقيق" أجابني بصوته المسرحي الجميل: "سأستميت للدفاع عن هؤلاء الأبطال" ودخل إلى اللجنة وبعد الثالثة ظهراً خرجنا بوجوهنا المصفرة من رعبهم ولكن قلوبنا كانت أصلد من حجر أدمغتهم. أخبرونا أنهم كانوا يحققون معهم حول بعض المشاهد وبعض ما قصده النص مثل: "شققني عطشي في بلاد المياه". و"بلادي التي سورتها الأرامل", " وداعا بلاد المجاعات والنفط" و.. و...  وغيرها.. ثم قالوا لهم انصرفوا... وأصبح وضع عدنان أصعب وأخطر بعد تلك الأيام وخاصة حين سُرّبتْ إلينا بعض الأخبار عن تقارير رعد بندر الذي كان مستشاراً للوزير، نافثاً سمه الأصفر وبالذات بعد صدور مجلة "أسفار"، الذي قسمه الصائغ إلى قسمين  مزيحاً المواد المفروضة من قبل الوزارة لشعراء المديح إلى خارج متن المجلة فاصلاً ذلك بمقالة جريئة كتبها عن الجيل والحرب وبول ايلوار. ورغم أن عدنان قدم استقالته من المنتدى والمجلة بعد أيام من تلك الحادثة.. إلا أنهم لن يتركوه. خاصة وان رعد بندر كان مغتاظاً من نجاحات عدنان الشعرية واحترام الوسط الثقافي والناس لتجربته الناصعة التي لم تتلوث بقصائد المديح. بينما تكاد لا تخلو مناسبة إلا ونجد بندر وأقرانه يتسابقون على الردح والمدح أمام الرئيس على شاشات التلفزيون. (ولاعتيادهم على مسلك "التلويق والتزويق" أذكر - عندما كنت أعمل في القسم الثقافي في جريدة القادسية - أننا كنا نحتفظ بقصيدة كتبها بندر بخط يده في مدح رئيس تحرير جريدة القادسية)..
وهكذا انقلبت الدنيا بعد انتشار ذلك العدد، وزارني عدنان متضايقاً قلقاً، مفكراً بالرحيل، لأنه كان يعتقد أنهم لن يتركوه بعد هذه الحماقة الكبيرة أبداً".. وكان قراره وقرارنا جميعاً أن لا يبقى عدنان داخل العراق وأن يخرج بأسرع ما يمكن وبدأنا بنقل أغراضه للكوفة والمشكلة كيف ندبر أجرة اللوري البالغة 175 دينار الذي سوف ينقل أغراض الشقة والمتكونة من كتب ودوريات وبعض الحاجيات والملابس البسيطة، فقد قرر عدنان بيع الأثاث وأغلبه معطوب وخاصة غرفة الاستقبال التي لم يكن فيها شيء سالماً سوى كرسي واحد وجاء من يشتري الأثاث من الباعة المتجولين والذي قرأ في وجوهنا حجم الاضطرار فاستغل الوضع ودفع في الأثاث 50 دينار فقط. فقدحت في بالي فكرة عظيمة.. نهضت وصرخت في وجه المشتري: "يا ظالم، تشتري كل هذا الأثاث بخمسين دينار فقط؟ شنو أثاث موتى؟" ورفعت الكرسي السليم الوحيد وضربته في الأرض بقوة وقلت هذا بخمسين ثم التفتت لعدنان وقلت أنا أشتري هذا الأثاث. وبدأت المساومة والشجار بيني وبين المشتري وانتهى بأن دفع 250 دينار وسط ذهول أم ماجدة وماجدة والأولاد وأم عدنان وعدنان الذي استلم المبلغ وغرقنا بضحك طويل مجلجل وهكذا ذهب عدنان إلى الكوفة وودعته بعد أيام إلى الأردن وأنا أعلم بأننا سنلتقي ذات يوم، في عمان، أو في أي مكان في هذا العالم، تاركاً لدي مسودة ديوانه "نشيد أوروك" كي أوصله إليه يوماً ما..

لقطة قريبة:
بعد سنوات وحين استقر به المقام في عمان.. طلب النشيد فأرسلته بيد صديقنا الفنان جسام محمد، وعرفت فيما بعد أنه حمله معه إلى بيروت مضيفاً إليه فصوله الجديد ليصدر هناك عن إحدى دور النشر المعروفة، ليثير ما يثير، فكان نشيدنا جميعاً.


(*) نشرت في موقع "كتابات" على الانترنيت 1-7-2003
 
البحث Google Custom Search